
وكأنّ الوطن خجل من الاعتراف بمن وهبوه كل ما لديهم، ثم ماتوا واقفين.
كانوا هناك، في قلب عدن المشتعلة،كانوا الصوت حين صمت الجميع، وكانوا السند حين غاب الظهر، وكانوا الحائط الأخير الذي صمد… حتى سقط.
منهم الطبيب، المهندس، الصحفي، العامل، الشاب العاطل عن العمل، طالب الجامعة، وحتى الطفل الذي لم يعرف بعد كيف تُقال كلمة “خذلان”.
اختاروا أن يبقوا.
اختاروا الكلمة في مواجهة الرصاص.
واختاروا الإسعاف في غياب الدولة.
واختاروا أن يحموا بصدورهم وطنًا لم يحتمِ بهم أبدًا.
رأوا الموت ولم يتراجعوا. رأوا أصدقاءهم يتساقطون كأوراق الخريف أمام أعينهم، واحدًا تلو الآخر… دون وداع، دون دفن لائق، دون دمعة تُحتسب.
بعضهم مات برصاصة، وبعضهم بنزيفٍ طويل اسمه “الخذلان”، وبعضهم خرج من الوطن بجسدٍ مثقل بالجراح، فلم يجد فيه سريرًا للشفاء، ولا جهة تعترف بوجوده، ولا حتى سقفًا يأويه.
كانوا يحلمون بوطنٍ يحميهم، وطنٍ يستقرون فيه بعد كل هذه التضحية، لكنهم لم يجدوا سوى وطنٍ بقي لمن لا يستحقه، وطنٍ للمطبلين والمنتفعين، لمن يملك المال والسلطة، وطنٍ يُجبر غيره على أن يكون تابعًا، غير مرئي، غير مسموع.
رأوا الخيانة بأقرب الوجوه.
كانوا في الميدان، بينما كان غيرهم في الفنادق يوزّع البطولات الورقية.
رأوا من خان، من باع، من أشار بالموقع مقابل رشوة، من سلّم جاره مقابل وعد فارغ.
رأوا من كان معهم في الخندق بالأمس، وقد صار اليوم يهاجمهم من على شاشة التلفاز.
أحدهم لا يزال جسده يحمل آثار الطلقات… والمخدر غائب، ليس عن العملية فقط، بل عن كل تفاصيل حياته.
لا يعرف كيف يضمد جراحه بلا مخدر، لأن الألم أصبح هو الشيء الوحيد الذي يشعر به، الشيء الوحيد الذي لم يغادره، ولم يُنسِه الوطن إياه.
غادروا… لا إلى الفنادق ولا إلى المناصب، بل إلى منفى قاسٍ، لا يحمل دفء الذكريات، ولا حتى صورة أم على الجدار. صاروا لاجئين بعد أن كانوا أبطالًا.
بعضهم صار يتنقل بين المستشفيات، دون دواء. وبعضهم صار منفيًّا، مهددًا، ممنوعًا من العودة، لأن في عودته خطرًا على كذبة “الوطن المستقر”.
نعم، اغتيلوا معنويًا قبل أن يُهدَّدوا جسديًا. ومات فيهم شيء لا يُعاد إحياؤه.مات الحلم.
كانوا يظنون أن الوطن سيذكرهم، أن أحدًا سيطرق بابهم يومًا ويقول: “شكرًا لأنكم صمدتم حين هرب الجميع.” لكن لا أحد جاء.
ماذا ترك لهم الوطن؟
ترك لهم الصمت.
ترك لهم أخبارًا تتحدث عن “أبطال” جدد،
رجال بلا تاريخ، بلا ندبة، بلا موقف.
ترك لهم صفحات مليئة بالمديح لأشخاص لم يسمعوا صوت الحرب،
ولم يروا أصدقاءهم يُقتلون أمامهم،
ولم يعرفوا كيف يُداوى الجرح دون مخدر.
ترك لهم جحيم الذاكرة،
وشوارع مليئة بالصور… لكن بدونهم.
لم يطلبوا شيئًا. لم يطلبوا جائزة، ولا تكريمًا، ولا منصبًا.
كانوا يريدون فقط وطنًا لا يعاقب من يحبه بصدق. مكانًا صغيرًا في حضن هذا التراب، مكانًا لا يُقال فيه عنهم: “انتهت مهمتكم… ارحلوا بصمت.”
ولكنهم استفاقوا على اللاشيء. بعد كل هذه التضحيات بأرواحهم وأجسادهم، وبدموع عائلاتهم، استفاقوا على فراغٍ ثقيل من نسيان، على وطنٍ لا يعرف كيف يرد الجميل، على زمنٍ لا يرحم من أحبوه بصدق.
ولكننا نكتب.
نكتب لأننا لا نريد لهم أن يُنسوا.
نكتب لأن هذا الوطن، إن لم يتذكرهم، سيفقد آخر ما تبقّى من شرفه.
نكتب لأن الحقيقة أقدس من كل المناصب.
ولأن الأبطال الحقيقيين لا يموتون… حتى وإن عاشوا منفيين، مكسورين، مهمشين.
إليهم: أنتم الضوء في زمن التطبيل، أنتم الوطن الحقيقي… وإن أنكروا وجودكم.