الشوارع التي كانت حاضنة لأحلام الطفولة، والحرية، والعمل، باتت اليوم فضاءً يوميًا للمهانة… وكأن الفتاة التي تمشي وحيدة أصبحت هدفًا مشروعًا لكل من يملك مركبة أو فلسًا زائدًا.
من السيارات الفارهة… إلى باصات النقل الجميع يشترك في الجريمة:
لا فرق بين من يقود سيارة فارهة مدفوعة الثمن، أو باصًا متهالكًا يُكدّ فيه لقمة عيشه.
التحرّش بالنساء في شوارع عدن صار سلوكًا جماعيًا، يوميًا، علنيًا، وبلا رادع.
الفتيات يخرجن إلى مدارسهن، جامعاتهن، وظائفهن… لكن ما إن تطأ أقدامهن الرصيف حتى تبدأ المطاردة.
نظرات فاحصة، كلمات بذيئة، عروض ركوب، صفارات، ملاحقات بالسيارات… وكأن الأنثى كائن غريب تجب محاصرته.
“أحيانًا أضع سماعات أذن من غير موسيقى فقط كي لا أسمع الشتائم. لكن العيون لا تحتاج صوتًا كي تجرح”،تقول طالبة جامعية في كلية الطب خور مكسر.
من المضايقة إلى “شراء الكرامة”… واستباحة علنية:
ما يثير الاشمئزاز أكثر من الكلمات السوقية هو ما بدأ يظهر علنًا مؤخرًا شباب يعرضون مبالغ مالية على الفتيات مقابل ركوب السيارة معهم.
وكأن الكرامة صارت تُباع وتُشترى، وكأن المرور في الشارع يُفهم تلقائيًا كإشارة قبول.
“قال لي: تعالي بس تمشي معي نص ساعة، وأعطيك اللي تشتي… شعرت أني في سوق نخاسة”، تقول موظفة شابة في العقد الثاني من عمرها.
وفي مشهد يشي بالانحدار الأخلاقي العام، تعرّضت فتاة خلال استخدام المواصلات العامة في منتصف النهار لموقف مهين، حينما قام سائق الباص بمدّ “عود قات” نحوها وهو يقول: “تفضلي قات!”
هذا التصرف لم يكن فقط خارجًا عن حدود الذوق، بل حمل دلالة اجتماعية جارحة، إذ يُربط تعاطي القات بين النساء في الأوساط العدنية بصورة نمطية للفتيات “الفاسدات”، ما جعل هذا المشهد إهانة مبطّنة، محمّلة بالاحتقار الاجتماعي.
وفي حادثة أخرى مساءً، أثناء توجه مجموعة من الفتيات إلى أحد المولات، مرت سيارة فارهة تقل مجموعة من الشباب، فقام أحدهم بالصراخ من نافذة السيارة:
“هيا الليلة بـ500 ريال سعودي… تعالوا!”
هنا لم يعد الأمر مجرد تحرّش، بل إسفاف سافر، ومحاولة شراء الكرامة بالمال، وكأن كل امرأة تمر في الشارع مشروع للبيع المؤقت.
إنه ليس فقط استغلالًا، بل أيضًا انتهاك مباشر وممنهج لأبسط حقوق الإنسان.
لا فرق بين منقبة أو غيرها… الكل هدف:
في مشهد يزيد من الغضب، تبيّن أن هذه المضايقات لا تفرّق بين فتاة منقبة أو محجبة أو سافرة.
اللباس ليس هو السبب، بل العقل المريض، والفكر المعطوب، وانهيار الضوابط المجتمعية.
تقول، معلمة في إحدى المدارس الحكومية “أخرج للنقل وأنا منقبة تمامًا، ومع ذلك أُلاحق بكلام بذيء أو بسيارة تسير خلفي ببطء… وكأني لا أملك الحق في السير وحدي.”
غياب الدولة… وصمت المجتمع:
الغريب أن هذه الممارسات تتكرّر يوميًا، في وضح النهار وفي جميع الاوقات، على مرأى ومسمع من الجميع، ومع ذلك لا رقابة، لا محاسبة، لا حملات توعية، ولا حتى تحرك مجتمعي بسيط.
السلطات المحلية منشغلة بصراعاتها، والجهاز الأمني لا يُبالي إلا بالسياسة، والإعلام يغض الطرف، كأن كرامة النساء أمر ثانوي.
مناشدة لكل من يحمل ذرة ضمير:
- إلى الأجهزة الأمنية: الشارع ليس ساحة للغنيمة، والمجرم يجب أن يُعاقب.
- إلى الأسر والأهل: لا تظلموا بناتكم باتهامهن لأنهن “خرجْن”، بل اسألوا من ربّى هذه الذئاب.
- إلى التربويين: لا فائدة من تعليم لا يزرع الاحترام.
- إلى الإعلام: كفاكم صمتًا مريحًا… الخجل من كشف الواقع هو جريمة أخرى.
- إلى من يملك مالًا أو مركبة: الكرامة لا تُشترى، والمرأة ليست سلعة. كفّوا عن ابتذال الشوارع باسم الترف.
المدينة التي تخون نساءها:
عدن ليست مجرد مبانٍ بحرية وأسواق مزدحمة. هي مدينة نساؤها كنّ لعقود، ركيزة الحياة والتعليم والعمل والنشاط المدني.
فحين تضيق المدينة بأقدام فتياتها، فاعلموا أن الظلم لم يعد خفيًا… بل صار عرفًا.
نحن لا نطلب معجزة.
نريد فقط أن نمشي بأمان، دون أن نُعامل كسلعة، أو فريسة، أو عار.