
في الاقتصاد الحديث، لا يكفي امتلاك الموارد الطبيعية أو الموقع الجغرافي الفريد كي يزدهر بلد ما. النجاح يتطلب منظومات متكاملة تربط بين حلقات الإنتاج والتمويل والتوزيع، بحيث تتحول الإمكانات إلى فرص، والفرص إلى نمو مستدام. في اليمن، تتجلى بوضوح فجوتان خطيرتان في هذه المنظومة: غياب سوق مالية منظّمة، وغياب موانئ حديثة متكاملة.
هاتان الفجوتان تمثلان في الواقع انقطاعين في شبكتين حيويتين: الأولى تربط المدخرات بالاستثمار المنتج، والثانية تربط المنتجين المحليين بالأسواق العالمية. وفي الحالتين، النتيجة واحدة: منظومة عاجزة عن تحويل الإمكانات الكامنة إلى نمو حقيقي، مهما كانت الموارد متاحة أو الفرص قائمة.
غياب سوق الأوراق المالية: أموال مجمَّدة خارج دائرة الإنتاج
البورصة ليست مجرد مكان لبيع وشراء الأسهم، بل هي قناة رئيسية لتعبئة المدخرات وتوجيهها نحو استثمارات طويلة الأجل في مشروعات إنتاجية وخدمية كبرى. في غيابها، كما هو الحال في اليمن، تبقى المدخرات إمّا مجمَّدة في الذهب والعقار، أو مستنزفة في المضاربة على العملات، أو مكدّسة خارج النظام المصرفي.
وجود سوق مالية منظمة لا يقتصر أثره على تنشيط الاستثمار، بل يفرض على الشركات التزامًا بالشفافية والإفصاح الدوري، ما يعزز الثقة بين المستثمرين، ويجذب رؤوس أموال محلية وأجنبية. في بلدان مثل مصر أو الأردن، ساعدت أسواق المال على تمويل مشروعات عملاقة في الطاقة والنقل والصناعة، وهو ما يمكن أن يستفاد منه كنموذج لليمن.
غياب هذه السوق في اليمن يعني بقاء المشاريع الكبرى — في الطاقة أو البنية التحتية أو الاتصالات — أسيرة التمويل المصرفي المحدود أو القروض الخارجية المشروطة، ما يبطئ تنفيذها، ويقلل فرص خلق وظائف جديدة، ويقيّد توسع القطاع الخاص.
غياب الميناء الحديث: انقطاع شريان التجارة
الميناء الحديث ليس مجرد رصيف ترسو عليه السفن، بل هو منظومة متكاملة تشمل بنية مادية (غاطس عميق، رافعات عالية الإنتاجية، ساحات منظمة)، وبنية رقمية (أنظمة لتبادل البيانات وتتبع الشحنات)، وبنية تشغيلية (إجراءات جمركية مرنة، تشغيل على مدار الساعة، وربط بري وسككي بالمراكز الصناعية والتجارية).
عندما تغيب هذه العناصر، يتراجع موقع الميناء في الشبكات الملاحية العالمية، وتتحول البلاد إلى محطة فرعية على خطوط التغذية البحرية، ما يضاعف زمن الرحلات وكلفة الشحن. وهذا يضعف قدرة اليمن على تصدير منتجاته — مثل الأسماك والمنتجات الزراعية — بكفاءة، ويعطل سلاسل التوريد للصناعات المحلية، ويرفع أسعار السلع المستوردة.
أمثلة من المنطقة تُظهر الفرق: ميناء جبل علي في الإمارات تحوّل إلى مركز إقليمي للتجارة والصناعة بفضل تكامله مع مناطق حرطة متطورة، بينما بقيت موانئ أخرى، بلا تحديث، خارج المنافسة الإقليمية. اليمن، بموقعه على باب المندب، كان يمكن أن يلعب دورًا مشابهًا لو تم تطوير موانئه الرئيسية — عدن، الحديدة، المكلا، المخا — إلى موانئ حديثة ذات خدمات متكاملة.
تشابه العِلّة واختلاف المجال
غياب سوق مال منظّم يقطع الجسر بين المدخرات والاستثمار المنتج، كما أن غياب الميناء الحديث يقطع الجسر بين المنتجين المحليين والأسواق العالمية. وفي الحالتين، يُترك الاقتصاد معلقًا بين طرفين لا يلتقيان: رأس مال بلا مشروع، وإنتاج بلا منفذ.
هذا الانقطاع المزدوج يخلق اقتصادًا هشًّا، يعتمد على أنشطة قصيرة الأجل وعالية المخاطر، ويبقى عُرضة للتقلبات المالية واللوجستية. حتى القطاعات الواعدة — كالزراعة الموجهة للتصدير أو الصناعات التحويلية الخفيفة — تجد نفسها عاجزة عن المنافسة من دون وجود بنية تحتية مالية ولوجستية داعمة.
أثر الفجوتين على التنمية المستدامة
التنمية المستدامة ليست مجرد زيادة في الناتج المحلي الإجمالي، بل هي نمو متواصل يشمل مختلف الشرائح، ويوفر وظائف، ويحسن نوعية الحياة. ويتطلب تحقيق هذا الهدف:
1. قنوات تمويلية متنوعة: حتى لا تبقى المشاريع رهينة القروض المصرفية المحدودة.
2. بنية لوجستية عالية الكفاءة: لضمان سرعة وموثوقية تدفق السلع والخدمات، وخفض التكاليف، وتقليل الهدر في الوقت والموارد.
غياب البورصة يجعل المشاريع الكبرى تعتمد على تمويل خارجي محفوف بالشروط والمخاطر، بينما غياب الميناء الحديث يعني أن أي إنتاج محلي سيواجه عقبات كبيرة عند التصدير أو استيراد المدخلات. النتيجة الحتمية: تباطؤ في النمو، ضعف في خلق فرص العمل، وتراجع في القدرة التنافسية إقليميًا ودوليًا.
من أين نبدأ؟
ردم هذه الفجوات يتطلب رؤية وطنية شاملة وإرادة سياسية واقتصادية متماسكة:
• في المجال المالي: إنشاء سوق أوراق مالية وطنية تبدأ بإدراج الشركات الكبرى القائمة، وتطوير الإطار القانوني والرقابي، وتشجيع الادخار والاستثمار المؤسسي، وتوسيع قاعدة المستثمرين الأفراد والمؤسسات.
• في المجال اللوجستي: تطوير الموانئ الاستراتيجية لتواكب المعايير العالمية، وربطها بممرات نقل حديثة ومناطق صناعية ولوجستية، وجذب استثمارات تشغيلية دولية ذات خبرة، مع اعتماد إدارة احترافية شفافة.
النجاح هنا لا يتوقف عند البناء أو إصدار التشريعات، بل يتطلب كفاءة في التشغيل، وحوكمة رشيدة، وتعاونًا فعليًا بين القطاعين العام والخاص، وبيئة استثمارية مستقرة قادرة على جذب رأس المال طويل الأجل.
خاتمة
يمتلك اليمن إمكانات هائلة: موقع استراتيجي على أحد أهم الممرات البحرية في العالم، سواحل ممتدة، موارد بشرية شابة، وفرص واسعة في الزراعة والصيد والطاقة والخدمات. لكن هذه الإمكانات ستظل كامنة إذا لم تُبنَ الجسور التي تربط عناصر المنظومة الاقتصادية: جسر مالي يربط المدخرات بالاستثمار المنتج، وجسر لوجستي يربط الإنتاج بالأسواق.
الجغرافيا وحدها لا تصنع الازدهار، ورأس المال بلا منفذ أو إنتاج بلا تمويل ليس إلا فرصة ضائعة جديدة تُضاف إلى سجل طويل من الفرص المهدورة.