.jpg)
في بلد تُغلفه الأعراف القبلية، وتُخدّر فيه العقول باسم الدين، تُسفك دماء النساء كل يوم على عتبات ما يُسمّى زورًا بـ”الشرف”. لا بد أن نتوقف. لا بد أن نسأل:
من القاتل الحقيقي؟
هل هو من ضغط على الزناد أو غرز السكين؟ أم من برّر له، وصفق، وكتب تعليقًا يقول:
“رجّال ابن رجّال… جعل يده ما تمسها النار”؟
الذي يحدث ليس حوادث معزولة، بل نمط متكرر من الجرائم الممنهجة ضد النساء، تحت مسمى “الشرف”، أو “الغيرة”، أو مجرد تسلط ذكوري بلا حدود.
في عدن، طُعنت فتاة حتى الموت في مركز تجاري، أمام الناس والكاميرات والسبب؟ أنها لم تبادل مشاعر شاب أحبها من طرفٍ واحد.
في صنعاء، وُجدت فتاة مقطعة الأوصال، مرمية في المجاري وبيوت مهجورة، والقاتل معروف بتعاطيه المخدرات ولم يمضِ على خروجه من السجن سوى أشهر.
في ألمانيا، زوجة يمنية لم تبلغ الثلاثين من عمرها وأم لستة أطفال تُقتل على يد زوجها اليمني.
وفي إحدى المدن اليمنية، امرأة تُقتل وهي نائمة… على يد زوجها، وغيرهم الكثير والكثير من الجرائم التي يتم التستر عليها وإخفاؤها.
وكل مرّة، نسمع نفس الأسطوانة المعطوبة: “أكيد عملت شيء”، “أكيد كانت مستفزة”، “أكيد خانت”، “الرجل ما بيقتل من فراغ”… وكأن المرأة في أعين البعض مشروع جريمة مؤجل، فقط بانتظار “غضبة شرف”.
أي شرف هذا الذي لا يظهر إلا بالسكين؟
وأي رجولة تلك التي لا تثبت إلا بسفك دم أنثى ضعيفة؟
هل هذا الرجل معصوم من الخطأ والعقاب؟
أم أن الشرف والعِيب والحرام وُجِدت فقط لتُقاس على النساء وحدهن؟
لماذا حين تُقتل امرأة، يبدأ الناس بالتفتيش في ماضيها، وسلوكها، وملابسها، وكأنها هي المذنبة لأنها وُلدت أنثى؟
لماذا لا يُحاكم القاتل، بل يُمَجَّد؟ لماذا نصفق له وكأنه بطل فيلم أكشن، وليس مجرمًا يجب أن يُقاد إلى السجن، لا إلى أحضان القبيلة والعشيرة والمجتمع الذي يغفر له كل شيء لأنه… “ذكر”؟
شريعة من؟ وأي دين هذا؟ القاتل لا يتحرك وحده!
يأخذ معه فتاوى جاهزة، وتقاليد مشوّهة، ومجتمعًا يمده بالتصفيق لا بالعار.
يتحدثون عن الدين، عن الغيرة، عن “سترة البيت”…
لكنهم ينسون – أو يتناسون – أن الله حرّم القتل تحريمًا قاطعًا:
“ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا”
(النساء: 93)
أين ذهب هذا النص؟
أم أننا نأخذ من الدين ما يخدم سلطتنا الذكورية، ونتجاهل ما يُديننا؟
وأين هي الرجولة الحقيقية؟
من المؤلم أن كثيرًا من الرجال يتخلون عن مسؤولياتهم الدينية والإنسانية في القوامة والحماية والرأفة.
نبي الإسلام، محمد ﷺ، لم يكن يومًا عنيفًا أو غاضبًا على النساء، بل قال:
“رفقًا بالقوارير.”
ووقف في خطبة الوداع ليقول:
“استوصوا بالنساء خيرًا.”
فأي رجولة تلك التي تترجم القوامة إلى عنف، والغيرة إلى دم، والكرامة إلى مقبرة؟
جريمة يُحتفل بها!
“جعل يده ما تمسها النار”
“رجّال ابن رجّال”
“أخذ بثأره وشرفه”
“كفو والله كفو”
“لو كل واحد يسوي مثله… البنات استقاموا”
هذه ليست مجرد تعليقات تافهة على وسائل التواصل، بل خناجر تُطعن بها كل امرأة على قيد الحياة.
دعاء بالجنة لمن قتل… لأن القاتل ذكر، والمقتولة امرأة.
هل صرنا نحجز غرفًا في الجنة لمجرمين… فقط لأنهم ذكور؟
القانون… في صف القاتل!
وتعد جرائم الشرف في اليمن من الجرائم المتفاقمة، نتيجةً لغياب قوانين تقتص للضحية، ووجود مواد قانونية تحمي القاتل.
• المادة 59 من قانون الجرائم والعقوبات اليمني تنص على:
“لا يُقتص من الأصل بفرعه، وإنما يُحكم بالدية أو الأرش.”
• أما المادة 233 فتقول:
“إذا اعتدى الأصل على فرعه بالقتل أو الجرح فلا قصاص، وإنما يُحكم بالدية أو الأرش، ويجوز تعزيره بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات، أو بالغرامة.”
هل هذا قانون… أم تصريح بالقتل؟
قانون يبرر للرجل قتل بناته، أخواته، زوجاته، طالما أنهن من “أصوله”، ويمنحه فوق ذلك حصانة قانونية واجتماعية لا تُمس.
نساء ضد النساء!
والمؤلم أكثر… أن بعض النساء يشاركن في تبرير هذه الجرائم.
أمهات يقلن: “ولدي بيربيها!”
زوجات يبررن عنف أزواجهن بحجة أنه “ذكر ولا يعيبه شيء”.
وكأن التضامن مع الظالم، فطرةٌ نسوية مكتسبة بفعل الخوف والتطبيع والسكوت.
جريمة تُدفن في الصحف…
ولأن الجميع مشترك في هذه الجريمة، فحتى الإعلام بات يتواطأ بالصمت.
القتل يُعامل كخبر عابر.
حادثة شخصية.
عنوان باهت في صفحة الحوادث:
“خلاف أسري ينتهي بجريمة”
“شاب يقتل شقيقته”
ثم لا شيء.
لا متابعة.
لا تحقيق صحفي.
لا نقاش مجتمعي.
لا ضغط على الجهات القضائية.
كأن دم المرأة لا يستحق أن يكون “قضية رأي عام”.
كأنها رحلت، ويكفي أنها دُفنت… حتى تُدفن القصة معها.
هذا الصمت الإعلامي يمنح القاتل وسامًا إضافيًا:
أن تُمحى جريمته بسرعة… ويُكافأ بالنسيان.
هذا ليس شرفًا… هذا هو العار الحقيقي!
كل مرة نسكت فيها عن هذه الجرائم، نمنح الضوء الأخضر للجريمة القادمة،
وكل مرة نبرر فيها للقاتل، نحن نضع السكين في يد ذكر آخر.
“القتل ليس وجهة نظر”
“القتل ليس خياراً”
“القتل ليس شرفاً”
بل هو العار الحقيقي.
هل نحن مجتمع يقدّس الحياة والكرامة؟
أم مجتمع اعتاد أن يقتل نساءه ثم يبكي عليهن؟
هل نريد فعلاً قانونًا يحمي النساء؟
أم مجرد منشورات حزينة على “فيسبوك” بعد كل جريمة؟
هل سنبقى نصفق للمجرم لأنه ذكر… ونلطم على المقتولة لأنها أنثى؟
الرجولة ليست في القتل.
والشرف ليس دمًا يُراق.
ومن يمجّد القاتل، يشاركه الجريمة دون أن يدري.
فإما أن نصحو الآن… أو ننتظر الضحية القادمة.