
مارسوا العبثَ على عبادِ اللهِ في حياتِهم وممتلكاتِهم، فالاستبدادُ المطلقُ عنوانُ حكمِهم، وهويتُه اللصيقةُ به، والطغيانُ الأحمقُ سلوكُهم اليوميُّ الذي يتباهونَ به. حاربوا منابعَ التنويرِ من مدارسَ، وجامعاتٍ، ومساجدَ، وجعلوا منها خصمًا لدودًا يستحقُّ التدميرَ والنسفَ، ورأوا في المتعلمينَ ودعاةِ الحريةِ أعداءً لهم وللدينِ.
لم يحافظوا على كرامةِ الإنسانِ كإنسان، ولا على كيانِ الدولةِ كدولة، وحُكمُهم إلى تسلّطِ العصابةِ أقرب، وهو لا يتفق، قطعًا، مع رخاءِ واستقرارِ الشعوب، ولا مع صيرورةِ الحضارةِ وتقدّمِها، وبه وبسببِه سنبقى في الدركِ الأسفلِ من الهاوية.
في دراسةٍ له عن الأئمةِ والقبائل، قال بول دريش – وهو باحثٌ غربيٌّ سبق له العملُ في جامعةِ أكسفورد – إن الإمامةَ لا تنطبقُ عليها التعريفاتُ المرتبطةُ بكلمةِ دولة، وإن الدولةَ تبدو ظاهرةً ثانويةً بالنسبةِ للتاريخِ الزيدي، وأضاف: «وفقًا للمعاييرِ الخارجية، تبدو الإمامةُ دولةً، لكنها سرعانَ ما تتحولُ إلى لا دولةٍ من سنةٍ إلى أخرى، أو حتى من شهرٍ إلى آخرَ تقريبًا»، وأردف: «وللمطالبةِ بسلطانٍ أوسع، يُراهنُ السيدُ على الإمامة، أما غيرُ السيدِ، فلكي يحصلَ على نفوذٍ أكبر، فإنه يُساندُ الداعيَ للإمامة».
النظريةُ الإماميةُ في الحُكمِ نظريةٌ أصوليةٌ لأسرةٍ تلهثُ وراءَ السلطةِ، من أجلِ التحكّمِ والسيطرةِ، ولا تعترفُ – كما قالَ الباحثُ ثابتُ الأحمدي – بالآخرِ أبدًا، تنظرُ إلى الوطنِ باعتباره إقطاعيةً خاصةً بها، وتتعاملُ مع ثرواتِه كما يتعاملُ البدوُ الرُّحَّلُ مع الماءِ والكلأ، غنيمةَ أسبوعٍ أو شهرٍ أو موسمٍ ليس إلا، ولا تهتمُّ بالبناءِ والإنتاجِ، بقدرِ ما تهتمُّ بالفيدِ أو الغنيمةِ، التي عادةً ما تكونُ على حسابِ السوادِ الأعظمِ من الناس.
الإمامةُ الزيديةُ فكرةٌ مذهبيةٌ كهنوتيةٌ مقيتة، وعبدالملك الحوثي – إمامُها الجديد – لم يحدْ قيدَ أنملةٍ عن تلك الوسائلِ العنصريةِ والاستعلائيةِ التي انتهجها أسلافُه؛ بل كان الأسوأَ، والأغبى، والأكثرَ تهورًا، بسرعةٍ خاطفةٍ، التهمَ الجغرافيا، وبعنجهيةٍ متوارثةٍ أذلَّ الإنسانَ، بمساعدةِ لاعبينَ محليينَ وخارجيينَ، كانوا يرونه وسيلةَ انتقامٍ لا أكثر، وبتحليلٍ نفسيٍّ عميقٍ لشخصيةِ هذا الإمامِ الكارثةِ، نجدُ أنه شخصٌ مريضٌ، مطحونٌ بمشاعرِ الدونيةِ والعجزِ، تُسيّره طموحاتٌ غيبيةٌ اتكاليةٌ، ذاتُ طابعٍ كابوسيٍّ، أدارَ المناطقَ الخاضعةَ لسيطرتِه كرئيسِ عصابةٍ، وما يزالُ حتى اللحظةِ يهرولُ صوبَ حتفِه، منتشيًا بالصرخةِ، وزعيقِ «ما نبالي»!
بين فكرةِ الدولةِ ودولةِ الفكرةِ ثمةَ علاقةٌ طرديةٌ من الصعبِ اختزالُها، والتنافسُ الذي حصلَ خلالَ الـ 1150 عامًا الفائتة، بين دولِ اليمنِ المتعاقبةِ، ودولةِ الإمامةِ، ما هو إلا صورةٌ سوداويةٌ لصراعٍ يتكرر، ولو قرأنا تاريخَ تلك الدولِ بتمعّنٍ، لوجدنا أنها جاءت امتدادًا للدولةِ التي تتجددُ وتتطورُ وإن تغيّرتْ مسمّياتُها، بعكسِ فكرةِ الإمامةِ التي تمضي قُدمًا دونَ تجديدٍ، وإن تغيّرتْ تفسيراتُها، وتعدّدتْ أسماءُ من يتولّونَ زمامَها، وما دامت – أي الإمامة – بنظرِ معتنقيها عقيدةً، وجزءًا من الدينِ، فمن الصعبِ اجتثاثُها.
وبمقارنةٍ فاحصةٍ، نجدُ أن مآثرَ تلك الدولِ المتعاقبةِ – التي عاصرتْ دولةَ الإمامةِ – من مساجدَ، ومدارسَ، وحصونٍ، ما زالتْ شاهدًا حيًّا على أنهم كانوا هنا، ومرّوا من هنا، تُفصحُ بنبرةِ تباهٍ عن عظيمِ اهتمامِهم بالأرضِ والإنسانِ، وما ذلك الكمُّ الهائلُ من الموروثِ الذي صاغَه من عاشوا في كنفِهم، من علماءَ وأدباءَ، إلا دليلٌ واضحٌ على أن اليمنَ عاشَ عصرَه الذهبيَّ في ظلِّ تلك الدولِ، وبلغَ مجدَه في عهدِ الدولةِ الرسوليةِ التي استمرتْ لأكثرَ من قرنينِ من الزمنِ.
وفي المقابلِ، أعيانا البحثُ عن حسنةٍ واحدةٍ، وأثرٍ جميلٍ لحُكمِ الأئمةِ، فلا شيءَ غيرَ الدمِ والبارودِ، وتاريخٍ من الفيدِ، وجراحاتٍ ما زالتْ غائرةً. وخلاصةُ المقارنةِ: شتّانَ بين دولٍ حضاريةٍ حفظتْ لنفسِها صفحاتٍ ناصعةً في كتبِ التاريخِ، وبين إمامةٍ عصبويةٍ لا تؤمنُ إلا بالعنفِ، والاستحواذِ، شعارُها كان وما يزالُ: (فوق جيش، وتحت عيش).
عبرَ تاريخِها الطويلِ، تنكمشُ الإمامةُ الزيديةُ إذا ما وجدتْ دولةً وحاكمًا قويًّا يصدُّها، وتتمددُ إذا حصلَ العكسُ، ومن هذا المنطلقِ، وكي لا يظلَّ التنافسُ والصراعُ بين فكرةِ الدولةِ، ودولةِ الفكرةِ حتى قيامِ الساعةِ، ينبغي مجابهةُ الفكرِ الكهنوتيِّ بالفكرِ العقلانيِّ، ونبشُ تاريخِ الإجرامِ الإماميِّ، وفضحُ وتعريةُ تجارِ الدينِ، من أُطلقَ عليهم الأئمةُ المعتبرون، وقبلَ هذا وذاك تعزيزُ حضورِ الدولةِ، والجمهوريةِ، وكلِّ القيمِ الإنسانيةِ النبيلةِ.