حين يُذكر الوطن، تتّجه الأفكار مباشرة نحو الحدود والأعلام والدساتير. لكنّ الحقيقة الأعمق تُشير إلى لبنةٍ أولى، تُبنى داخل الجدران الأربعة لبيت صغير، قد لا تحمل اسماً في خارطة، لكنها تحمل في جنباتها معنى الوطن في أنقى صوره: العدالة، الانتماء، الكرامة، والمسؤولية.
الأسرة: هي أمة مصغرة...!!
إنها ليست مجرد كيان صغير يضم أفراداً ولا مجرد مأوى وسكن، بل هي المدرسة الأولى للروح، والأكاديمية التي تُلقّن مفاهيم العدل، والمساواة، والاحترام. إنها “أمة مصغّرة”، فيها يتعلّم الإنسان منذ نعومة أظفاره كيف يعيش مع الآخر، لا كضيف ولا كمنافس، بل كشريك في الوجود.
في الأسرة تتشكّل المواقف، وتُصقل الهويّات، وتُزرع القيم التي ستنعكس لاحقًا على سلوك الفرد في ساحات العمل، في مؤسسات الدولة، وفي مواقفه من القضايا العامة. فالبيت الذي يُنصف الأنثى كما الذكر، ويُصغي للصغير كما الكبير، ويُشرك جميع أفراده في المسؤوليات والقرارات، يربّي أبناءه على أن العدالة ليست شعارًا يُرفع، بل أسلوب حياة.
ولننظر مليًّا: كيف يتعلّم الطفل معنى “المواطنة المتساوية”؟
هل من كتاب مدرسي؟
ربما.
لكن التأثير الأعمق يأتي حين يرى والده يتشاور مع والدته، لا يأمرها. حين يُمنح رأيه احترامًا، حتى لو كان في السادسة من عمره. حين لا يُضحّى بأخته من أجل “الذكر أولى”، بل حين تُوزّع الفرص والحقوق داخل البيت على أساس الكفاءة والرحمة، لا على أساس التفضيلات الترابية أو الأعراف البالية.
المواطنة لا تُخلق في يوم أداء القسم أمام الدولة، بل في لحظة أداء الأخ لأخته واجبه في البيت دون شعور بالمنّة، وفي لحظة اعتراف الأب بخطئه أمام أبنائه، لأنه يؤمن أن الكرامة لا تُنتقص بالاعتذار، بل تُعزّز.
وما إن يخرج الفرد من هذا البيت، حتى يُصبح مواطنًا يحمل في قلبه بذور وطنٍ أفضل. لا يرضى بتمييز، ولا يقبل بالسكوت على الظلم، لأنه تعوّد أن يُعامَل بكرامة، وأن يرى الكل متساويًا في القيمة والحق. فيرفض أن يُستثنى أحد، أو يُقصى أحد، أو يُختزل الوطن في فئة أو طائفة أو قبيلة.
ومن هنا فإن أي مشروعٍ حقيقي لبناء دولة مدنية عادلة، لا يبدأ من قاعات البرلمانات فحسب، بل من غرف الجلوس وغرف الأطفال. من قصص ما قبل النوم، ومن مائدة الطعام التي لا يعلو فيها صوتٌ على آخر، ومن أمّ تعلّم أبناءها أن السلطة ليست بالصراخ، ومن أبٍ يُدرّب بناته على اتخاذ القرار لا على الخضوع.
إن المجتمع الذي لا يهتم بطبيعة البيوت، هو كمن يزرع في أرض ملوثة. فإذا أردنا وطنًا يحتضن أبناءه بعدل، علينا أن نُقيم في بيوتنا وطنًا صغيرًا، يحتضن أبناءه بتساوٍ.
حينها فقط، تنمو الأجيال على قيم المواطنة المتساوية، لا كدرس في مادة التربية الوطنية، بل كيقينٍ وجوديٍّ لا يُساوَم عليه.
ودمتم سالمين.