
الحوثيون يستثمرون اللحظة
بعد أيام قليلة من الضربات الأميركية التي طالت منشآت نطنز وفوردو وأراك النووية، أقدمت جماعة الحوثي، الذراع الإيرانية الأبرز في المنطقة، على تصعيد نوعي في البحر الأحمر. فاستهدفت طائراتهم المسيّرة وصواريخهم سفنًا تجارية دولية، أبرزها السفينتان “ماجيك سيز” و”إيترنيتي سي”، وتم تعطيلهما واحتجاز طواقمهما. لم يكن ذلك مجرد قرصنة، بل رسالة استراتيجية تهدف إلى كسر القواعد الدولية وفرض منطق الردع بالوكالة لصالح طهران.
باب المندب، الممر البحري الذي يمر عبره نحو 10 % من تجارة العالم، بات اليوم عرضة لتهديدات غير مسبوقة. وتزايدت قدرات الحوثيين الهجومية من حيث المدى والدقة، بفضل تدفق الأسلحة الإيرانية المتقدمة. وقد أكدت عملية ضبط كبرى في يوليو 2025 هذا الواقع، حين تمكنت القوات الدولية من مصادرة شحنة تحوي أنظمة توجيه صواريخ وذخائر متسكعة وأجزاء طائرات مسيّرة متطورة، كانت في طريقها للحوثيين عبر خليج عدن.
مشهد استراتيجي جديد
لم تقتصر تحركات الحوثيين على البحر، بل امتدت إلى غارات رمزية استهدفت ميناء حيفا ومطار بن غوريون قرب تل أبيب، في توافق واضح مع خطاب طهران الاستراتيجي. وعلى الرغم من محدودية تأثيرها العسكري، فإنها جسّدت انتقال اليمن من ساحة صراع بالوكالة إلى أداة ضغط مباشر ضمن استراتيجية إيران الإقليمية.
لقد أصبح اليمن، بهذا التحول، قاعدة أمامية لزعزعة الاستقرار في المنطقة، تربط الخليج بالقرن الأفريقي ومضيق السويس، وترسم خرائط جديدة للاشتباك غير المتكافئ.
الحوثيون والقرن الأفريقي
الأخطر من ذلك، ما كشفته تقارير استخباراتية حديثة عن تطور التنسيق بين الحوثيين وشبكات إيرانية ومجموعات إرهابية غير دولية في القرن الأفريقي، خصوصًا حركة الشباب في الصومال. وتشير التقديرات إلى تزايد التعاون في مجالات تهريب السلاح، والمراقبة البحرية، والعمليات غير النظامية. هذا المحور الوليد يهدد بتوسيع دائرة عدم الاستقرار، من السواحل اليمنية إلى شواطئ البحر الأحمر الغربية، ما يضاعف المخاطر أمام الملاحة الإقليمية والدولية.
الداخل المنهك تحت سطح المعركة
رغم استعراض القوة الخارجي، فإن الواقع الإنساني في مناطق سيطرة الحوثيين يتدهور بوتيرة مقلقة. الريال اليمني ينهار، أسعار الوقود تتضاعف، والمرتبات منقطعة منذ سنوات. الخدمات العامة منهارة، والمستشفيات تفتقر إلى أبسط الإمكانات، فيما تتكدّس الثروات لدى نخبة حوثية مرتبطة باقتصاد الحرب.
هذا التباين الحاد بين طموحات التوسع الإقليمي والانهيار الداخلي يُظهر جماعة منشغلة بإرضاء داعميها الإقليميين أكثر من اهتمامها بإنقاذ ما تبقى من الدولة والمجتمع.
اليمن هو المحور الحقيقي
سلّطت تداعيات حرب الأيام الاثني عشر الضوء على خلل استراتيجي كبير: فبينما ركّزت الولايات المتحدة على تقويض البرنامج النووي الإيراني، تُركت أذرع طهران الإقليمية على حالها. واليمن يتحمل اليوم العبء الأكبر لهذا الإغفال. لا يمكن للمنظومة الأمنية الإقليمية أن تتجاهل هذا البلد، فهو لم يعد مجرد “قضية إنسانية” أو “بؤرة للإرهاب”، بل أصبح عقدة استراتيجية تؤثر على أمن الممرات البحرية، وتوازنات القوى، واستقرار الإقليم بأسره.
إن تهميش اليمن في النقاشات الدولية لم يعد فقط خيارًا غير عادل، بل بات مخاطرة لا تُغتفر. يجب إدماجه في جهود السلام، وهياكل الردع الإقليمي، ومشاريع إعادة الإعمار ما بعد الصراعات. سواء عبر تحالفات بحرية لحماية البحر الأحمر أو آليات أممية لتسوية النزاع، يجب أن يكون لليمن صوت حاضر ومؤثر.
من التهميش إلى الفرض التاريخي
إن ما بعد حرب الأيام الاثني عشر لا يطرح تحذيرًا فقط، بل أيضًا فرصة. تجاهل اليمن سيُعمّق أزمات المنطقة، ويُطلِق يد الفوضى. لكن إن أُحسِن توظيف اللحظة، بدعم دبلوماسي وأمني وإنساني مركز، فبوسع اليمن أن يتحول من منصة تهديد إلى حجر زاوية في معمار أمن البحر الأحمر.
المخاطر تتزايد… والحسم لم يعد يحتمل التأجيل.