
في قطاع الدواء، تخلى أرباب هذه التجارة عن قسم أبوقراط الذي يقوم على تقديم العلاج كأولوية دون الالتفات إلى الربح أو الخسارة، فتحولت الأدوية إلى سلعة استهلاكية كأي بضاعة أخرى، وما زالت أسعارها ترهق المريض رغم تحسن العملة، بل إن بعضها ارتفع كتحدٍ سافر للواقع الجديد.
في السابق كان المواطن يقبل الغلاء مضطراً تحت وطأة انهيار العملة، يستلف ويشتري وهو يحوقل ويستغفر، أما اليوم، ومع استقرار العملة الوطنية لأكثر من شهر، فلا توجد أي جهود قادرة على كبح جماح أسعار الأدوية، ليس لخفضها وإنما فقط لإبقائها بقيمتها الحقيقية مقابل العملات الحرة.
عندما نتحدث عن الأدوية لا نستثني أيضا الكشوف والمخابر الطبية، التي بقدرة قادر رفعت أسعارها حتى أضحت تجارة مربحة سيبكي حين يطلع عليها بابلو اسكوبار على عدم دخوله هذا النشاط، عوضا من أن يتحول إلى مجرم عالمي.
أما التعليم الخاص فهو دهاليز معقدة، تتأرجح بين قرارات إغلاق وفتح وخفض وتراجع عن الخفض، ورغم أن التعليم رسالة سامية قبل أن يكون نشاطاً تجارياً، إلا أن كثيراً من المدارس الخاصة رفضت الانصياع لتصحيح أسعارها بما يتناسب مع قيمة العملة الوطنية، متمسكة بمبالغها القديمة وكأن شيئاً لم يتغير.
لم يُطلب منها خفض الأسعار وإنما فقط مساواتها بالقيمة الجديدة للعملة، لكن الرفض جاء قوياً، بل وصل أحياناً إلى التهديد بإغلاق المدارس ورمي الطلاب في الشوارع، في تحدٍ واضح لرسالة التعليم ومعانيها.
إن استمرار هذا العناد من قبل تجار الدواء وأصحاب المؤسسات التعليمية الخاصة لا يمكن تفسيره إلا بالجشع والاستهتار بمصير المواطن. وما لم تتدخل الدولة وأجهزتها الرقابية بحزم، فإننا على أعتاب كارثة مضاعفة: صحة منهكة لا تجد الدواء، وعقول ناشئة مهددة بالجهل لغياب التعليم. إن العبث بهذين القطاعين هو لعب بالنار، فهما صماما الأمان لأي وطن، وإذا تهاويا انهارت الدولة من أساسها.
ومن أجل مواجهة هذه الأزمة، لا بد من تشريعات ملزمة تربط أسعار الدواء والتعليم بحركة العملة الوطنية وتفرض عقوبات رادعة على المخالفين، وإلزام المؤسسات بنشر تكاليفها بشفافية لقطع الطريق أمام المبررات الواهية، مع تقديم دعم أو إعفاءات للجهات التي تلتزم بالتصحيح العادل للأسعار.
كما أن تعزيز المدارس والمستشفيات الحكومية ضرورة لكسر احتكار القطاع الخاص، فيما يبقى دور الإعلام والمجتمع المدني أداة ضغط أخلاقية وفاعلة في كشف هذه الممارسات.
بهذا وحده يمكن ردع جبابرة الدواء والتعليم، وحماية المواطن من أن يُساوَم على صحته وعقول أبنائه، وإعادة الاعتبار لقيمة العملة الوطنية وكرامة الناس التي لم تعد تحتمل المزيد من العبث.