إنه قرار سياسى.إنه تجويعٌ مقصود، بقرار عالمي. إنه موتٌ بالبطيء على مرأى ومسمع من عالم يرتدي بذلة «القانون الدولي»، بينما يطأ بأقدامه جثث الأطفال. وإذا كان أحد السياسيين الغربيين قد قال، في لحظة صراحة مريرة، إن ما يفعله نيتانياهو يعفيهم من أداء «المهمات القذرة» في الشرق الأوسط، فإن هذا التصريح، وإن جاء عرضيا، يُعبّر بدقة عن الانهيار الأخلاقي الذي تشهده الحضارة المعاصرة. نحن اليوم لا نشاهد فقط صوراً لصواريخ تنهال، ولا أنقاضا تُنتشل منها الجثث، بل نشاهد بطونا خاوية، وأمهات يرضعن صغارهن العطش، وأطفالا ينامون على أرض باردة بلا وجبة ولا حلم. الجوع هنا ليس عرضا جانبيا للحرب، بل هو قرار سياسي دولي وإداري محلي مُسبق. مَنْع إدخال الغذاء، تدمير خزانات المياه، حصار الدواء، قصف المخابز والمستشفيات... وتخدير إعلامي عن مفاوضات لا معنى لها غير انها هدمت سقف أحلام الجيل، حيث كنا نفاوض من أجل إكمال دولة واستعادة وطن وحق بالعودة، وإذ بنا نفاوض على كيس طحين !. كل هذا ليس عرضا من أعراض الحرب، بل أداة من أدواتها. أن يُقتل الإنسان برصاصة أو قذيفة، فذاك، على قسوته، مفهوم في سياق الحروب. أما أن يُترك ليموت جوعا في القرن الحادى والعشرين، فهذا انهيار أخلاقي لم يعرفه تاريخ البشرية، منذ أن أُطلق على هذا الكائن لقب «الإنسان». ولا قول يكفي لتسمية ما يحدث في غزة. لكن أيضا، لا وصف يكفي لحجم الإهانة التى نشعر بها نحن... نحن الذين لا نموت جوعا، بل نختنق بالقهر والعجز، ونكتفي بمشاهدة صور المأساة عبر شاشات ممتلئة بالنشرات العاجلة، وتغريدات التضامن. بل وتصفق للنصر !. ننظر إلى غزة، ولا نجرؤ على النظر إلى أنفسنا. نُبرّر العجز بالصمت، ونغلف الخزي بالبيانات. ندين... نشجب... نتابع بقلق! ثم نغلق الشاشة، وننام. وفيما تُترك غزة تواجه موتا بطيئا بسلاح هو الأرخص - منع الطعام والماء والدواء والحياة - يواصل العالم «المتحضّر» والدول العظمى فيه إقامة المؤتمرات باسم العدالة، ويتغنّى بمنظومة حقوق الإنسان. لكنّ الحقيقة أن هذا العالم أطلق على نفسه رصاصة الرحمة، حين قرّر أن يتحوّل إلى شاهد زور دائم في جنازات الأبرياء. غير أن العار الأكبر لا يقف عند حدود المجتمع الدولي. العار هنا... في الجانب الآخر من الجغرافيا العربية.حيث نشاهد أهل غزة يموتون من الجوع، بينما نسارع إلى صياغة «الخبر العاجل» في نشراتنا، وكأننا نُدخل الشعوب في دورة تدريب على التعايش مع القهر. والتكيف معه. نُعيد فيها صياغة الألم ليبدو وكأنه روتين يومي. نعمل على تشكيل الذهنية العربية لتتكيف مع الرعب وكأنه قدر لا فكاك منه. نُدرّب المواطن العربي على مشاهدة الدم، ثم التعايش معه، ثم نسيانه. غزة لا تموت فقط من الجوع. غزة تموت لأننا سمحنا للجوع بأن يكون خبرا عاديا.
السؤال لم يعد: متى ستنتهي هذه المجزرة؟ ولا: متى يُسمح لشعبك بكسرة خبز؟ السؤال الحقيقي هو: متى سنتوقف نحن عن التعايش مع الجوع كخبر؟.