
فتحت عيني على حياة كان النظام والقانون هو الضابط، فشهدت تنوعا جميلا من اعراق وثقافات واديان، في مدينة كان فيها المساجد والكنائس والمعابد، ما كان يعنيني ماذا يتعبد هؤلاء اكثر من عنايتي بهم كبشر والتعامل بيننا، والنظام والقانون الذي يحكم هذا التعامل، فالله كفيل بتقوى العباد وحساب الضالين منهم، وليس بيدي غير ان اقدم نفسي وعقيدتي وديني وعرقي وثقافتي على احسن وجه، عسى ان استطيع ان أغير فيهم {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ ما بأنفسهم } صدق الله العظيم.
كان للمذياع دور مهم في تثوير الناس، حيث يجتمع الوالد وزملاؤه والجيران على خطاب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وكانت مقاهي عدن تفتح هذا الخطاب للجميع لتجد تجمعات هائلة تستمع بتمعن في ظل الصمت الرهيب، كانت لحظات رهيبة مؤثرة كل كلمة في خطاب الزعيم تعزز فينا الروح القومية والعربية والاسلامية، وتعزز فينا الحاجة للتحرر من الاستعمار، لوطن يحكمه ابناؤه، وكنا نحلم بنعمة الحرية، كما كان يروج اننا (سنقطف التفاح من الطاقة).
ما كنا نتوقع ما حدث من اول يوم قرر فيه المستعمر الرحيل، ان نتقاتل على وطن، وان وحدنا الكفاح المسلح فرقتنا السلطة، واستمرت الصراعات على هذه السلطة، ورفعت الشعارات والتغني بالمشاريع السياسية، التي لم تكن غير خيالات، تنتج لنا مهزوما ومنتصرا، وتفكك المجتمع لفئويات واستمرت تلك المشاريع تنفي الآخر خارج الوطن، من انصار قحطان إلى انصار سالمين للزمرة والطغمة، كلها اسماء انتجها صراع السلطة والثروة، وعززت دولة الجماعة، دولة القبيلة والمنطقة بمظلة هشة اسمها الايديولوجيا، عندما سقطت الايديولوجيا ظهرت النعرات للسطح، فلم تكن الوحدة الا جزءا من هذا الامتداد غير الواعي لقيمتها واهميتها، فانتقل الجميع وهو مثخن بالصراع، والدليل انها عجزت عن صناعة تغيير حقيقي، غير هامش ديمقراطي لم يستطع فرض تبادل حقيقي للسلطة، ما تم فرضه هو تكتلات المصالح، التي فجرت حرب 94م وكان ضحيتها الجنوب وعدن.
المزعج في الامر ان قوى الضلال ما زالت تضلل الرأي العام والشباب اليوم، وكلّْ يصوغ التاريخ لمصالحه، ويروج في الاعلام معاركه مع الآخر، وهذا ما اتاح فرصة للأعداء بالعمل على تراكمات تلك الصراعات، ليس لحسم تلك الصراعات بل لاستمرارها، وضرب كل المشاريع القابلة للحياة في بلدي، واستعادة مشاريع الموت والفرقة والتجزئة، لم تكن الوحدة غير مشروع سياسي تأمل الناس فيه مخرجا ينهي حالة الانقسام والصراع، لو ترك للشباب حرية الدراسة والتمحيص والفحص في احداث الماضي لعرفوا انهم اليوم مغرر بهم، كل يجرهم لمعركته مع الآخر، ويضعهم في صندوقه الخاص، المشحون بالصراع والانتقام، وعلى الشباب اليوم تحطيم هذا الصندوق والخروج منه ليروا الحقيقة من مصدرها بالبحث العلمي و دراسة الاحداث بحيادية، سيدركون ان الوطن ضحية للخداع والخيالات السياسية، وانه صار اليوم بيد الاعداء، وادواتهم المصطنعة، والماضي المثخن بالصراعات غني ايضا بالتجارب والدروس، فيه مشاريع حياة اذا ما استعدناها يمكن ان نمضي لمستقبل زاهر، وفرض حالة من التغيير والتحول السياسي، ادواته هي نفسها ادوات المستقبل وهم الشباب الطاهر من صراعات الماضي البائس.
على جيلنا ان يعترف انه فشل في ترسيخ دولة جامعة ونهضة حقيقية، ويترك الشباب يشق مستقبله في عصر هو عصره ومستقبل هو مستقبله، والله على ما نقول شهيد.