بمرور الزمن تكتشف أن الكثير من المفاهيم إما زائفة ابتداء أو متحولة وغير ثابتة. لنأخذ مثلاً محدداً قريباً من أيدينا. الإرهاب مثلاً، مفهوم مائع أو سائل حسب منطق زيجمونت باومان، هذا يعتمد على الزاوية التي تنظر منها إلى هذا المفهوم.
الأمر متعلق ليس بالقيم التي يتم التذرع بها عند تصنيف جماعة ما بأنها (إرهابية)، للوهلة الأولى تبدو المسألة على علاقة وثيقة بالقيم والمبادئ والإنسانية وكثير من الشعارات. لكن إذا تمحصت قليلاً في بحث الأمور من زوايا مختلفة ستجد أن كل هذه الكلمات العاطفية هي لباس خارجي لجوهر الأمر ومحتواه.
الإرهاب مفردة متغيرة ومتحركة وغير ثابتة تتحرك بظل السياسة وتتلبس برداء القيم والأخلاق والعدالة. على مدار التاريخ كان مفهوم الإرهاب يستخدم باتجاهين متناقضين لا يجتمعان، فقد كان الغزاة يستخدمون المفهوم للإشارة لكل من يقاومهم، بينما ينظر إلى فعل المقاومة من جانب العدالة والقيم وحتى من وجهة نظر القانون الدولي على أنها أفعال مشروعة، والإرهاب هو بالضبط ما يقوم به المستعمر والغازي والمعتدي بصرف النظر عن المسوغات التي يحضرها مسبقاً.
لماذا الإرهاب مفهوم سائل؟
لأنه كثير التحول والتبدل وسهل الاستعمال بما تمليه المصلحة الجيوسياسية والجيواقتصادية بقدر أكبر. يمكن القول ببساطة أن الإرهاب قابل للغسيل ليس كما تغسل الكلى المريضة ولكن كما تغسل الأموال المنتجة عبر الإرهاب نفسه وعبر الأعمال غير المشروعة الموازية.
يمكن البحث المعمق في العمليات التاريخية لغسيل الإرهاب. لكن لننظر فيما حولنا فهو أكثر قرباً. فأثناء انتدابه على فلسطين رعى الاستعمار البريطاني كل المنظمات الصهيونية مثل منظمة أرغون شتيرن والهاغانا وغيرها كثير ومنها بالذات ظهر الكثير من الزعماء الصهاينة (مناحيم بيغن، إسحاق شامير، شارون والنتينياهو). ولم تصنف بريطانيا بعضها منظمات إرهابية إلا بعد أن استهدفت البريطانيين أنفسهم وليس بسبب جرائمها ضد العرب.
هل تحولت كل الجماعات الإرهابية الصهيونية فجأة ليس فقط إلى أساس للجيش الإسرائيلي بل ومستودع قيادات الدولة الصهيونية؟ لا..لا ... لقد تمت عملية غسيل فاضحة لكل الجرائم الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، وقد رأينا كيف كان يجري غسيل جرائم الإبادة في غزة أولاً بأول.
عملية غسيل الإرهاب ليست مقتصرة على الصهيونية ولكنها تتعداها إلى كل ما يحقق مصلحة. فانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان تعتبر أكبر عملية غسيل لمفهوم الإرهاب الذي ألصق بحركة طالبان قبل الغزو الأمريكي مع أن أمريكا هي اول من نفخ الروح في هذه الحركة انطلاقاً من باكستان.
دعونا لا نبتعد كثيراً. أمامنا هيئة تحرير الشام أو جبهة النصرة أو تنظيم داعش أو قل كل ذلك. على الرغم من أنها اعتبرت منظمة إرهابية حتى من قبل بريطانيا، فإن بريطانيا ارتبطت بها بعلاقات سرية من خلال المخابرات الخارجية (MI6). قال ريتشارد مور الرئيس السابق لـ(MI6) في القنصلية البريطانية في إسطنبول: “بعد أن أقمنا علاقة مع هيئة تحرير الشام قبل عام أو عامين من إطاحة بشار الأسد، مهدنا الطريق للحكومة البريطانية للعودة إلى البلاد في غضون أسابيع” وعقد جوناثان باول مستشار الأمن القومي البريطاني اجتماعاً سرياً مع حكومة الشرع (الجولاني سابقاً)، الجولاني لم يعد إرهابياً وسوريا حسب ترامب صارت “حليف جيوسياسي” ليس لأمريكا وحدها.
في مالي يجري التحضير لأكبر عملية تاريخية لغسيل الإرهاب بإيصال القاعدة إلى سدة الحكم. ستتولى فرنسا العملية بدعم من حلفائها انتقاما لانتكاستها في أفريقيا وحماية ما تم نهبه من يورانيوم النيجر من الوصول إلى طرف ثالث وقطع الطريق على النفوذ الصيني الروسي.
والآن يتبلور نموذج جديد لغسيل الإرهاب يتشكل في السودان. الدعم السريع هي امتداد غير منقطع لمليشيات الجينجويد. والجينجويد هي مليشيا أنشأتها قبائل دارفور عام 2003، نشاطها مدموغ بالصبغة الإرهابية حسب التعريفات المتداولة. استولى عليها البشير واستخدمها في حربه هناك. وفي 2013 تمت هيكلتها وتسميتها قوات الدعم السريع بعيداً عن المؤسسة العسكرية وتتبع البشير مباشرة. وبرغم ظهور نقاشات وآراء في الاتحاد الأوروبي تدعو لتصنيف الدعم السريع كمنظمة إرهابية إلا أنه استخدمها لمواجهة الهجرة عام 2016. هناك أطراف كثيرة تتصرف مع الدعم السريع كما تصرفت مع هيئة تحرير الشام. فلا تستغرب إذا ما جاء النبأ وصارت السودان حليفاً استراتيجياً لمن؟؟؟؟ بل سنستغرب إن توقفت العملية.
