يبدو أن السؤال الذي ألقيته في هذه الزاوية: من سرق منا عدن الجميلة، قبل أسبوعين لا يزال يلقى التفاعل من كثيرين أثارهم السؤال، ووجدوا أنه يستحق الوقوف عنده. بعض علق عليه باختصار شديد دون الخوض في التفاصيل، بعد أن باتت معروفة لكل ذي بصر وبصيرة، وبعض بإطناب وكثير من التفاصيل، وبعض بإضافة سؤال أو أسئلة إلى السؤال الأول: من سرق منا عدن الجميلة؟ وكنت تناولت في حلقة الأسبوع الماضي بعضها تحت عنوان: سرقوا منا عدن، أم أضعناها؟ في هذه الحلقة أقف على بقية التعليقات التي وصلتني مباشرة على الخاص، أو وجدتها منشورة في مواقع التواصل الاجتماعي.
أعتذر بداية لأصحابها، إذ أنني لم استأذنهم في نشرها، وعذري في ذلك أنها ليست آراء في شأن خاص، بل في قضية وطنية عامة، تخص عدن. وعدن حبنا وعشقنا، ومدينتنا الجميلة، وكل ما يحدث فيها ولها يهمنا جميعاً، إن كان فرحاً وإن كان حزناً. فكيف إذا كان ما يحدث لها وفيها الآن ومنذ سنوات يمس حياة كل مواطن يعيش فيها، تمسه في صميم حياته ومعيشته؟ ومستقبله ومستقبل أولاده ومستقبل عدن والوطن بأجمعه؟
والخلاصة التي خرجت بها أن عدن لا تستجدي عمراً جديداً من أحد، ولكنها قادرة على صنع قدرها بذاتها كما كانت دائماً، ومن لا يستطيع التكيف مع روحها ومدنيتها، ولا يكون معها، بل عليها، ويزرع فيها الشوك، فليعد إلى قريته، ويعودوا إلى قراهم.
مُلاحظة أخيرة هي أنني اضطررت إلى اختصار الآراء المُسهبة التي تحتاج إلى حيز أكبر مما هو متاح في هذه الزاوية مع قناعتي بأهميتها، وأكرر اعتذاري لأصحابها. وحتى لا أطيل، أدخل في صميم آرائكم. محمد الشقاع يقول في منتهى الوضوح والاختصار: “فعلاً سرقوها منا واضاعوا وطنًا وشردنا ونحن جبنا وهربنا معاً”. وبذات اليقين يقول عبدالله بن أحمد بن طاهر: “جميعنا ساهمنا بضياع عدن وسرقتها. وسؤال عبدالله المضي وسؤالك في محله...”. أما ياسر دحي فيضع كل كلمة في موضعها: “نعم ثمة تنكيل متعمد لهذه المدينة.. ثمة تجفيف متعمد لكل منابع الجمال.. جمال عدن.. لكن عدن عنقاء السواحل والموانئ الجديدة...عدن ابنة الماء وابنة النار وما يُضاء.. وكلي يقين من عودة هذه المدينة عودة لا ريب فيها ... فعدن عابرة للتاريخ، إنها الشمس مُستلقية على الشواطئ.. وهي القادم الجديد ... فعدن دائماً تأتي محملة بالوعود الجديدة.. عدن لا تخيب”. نعم أيها العزيز ياسر، عدن محملة بالوعود وبالرعود وبالغيث، وبكل ما هو جميل.
الشاعر علي حيمد يقول بنوع من الوجع: “في مقالك وضعت يدك على الجرح الذي عانت منه مدينة عدن الجميلة التي كانت تسمى سيدة المدن، ويوافقني أن الصراعات التدميرية التي عصفت بها منذ بزوغ فجر الاستقلال دمرت كل ما هو مدني وحضاري إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم والتي تعيش فيه أسوأ أحوالها”. “ابوسعيد” منير بامحيمود، علق بمنشور طويل يستحق أن ينشر كاملاً لولا ضيق المساحة لكني اختار منه التالي: “نعم أستاذنا الغالي وكاتبنا الجميل أضعنا عدن بين سراديب السنين ودهاليز الأيام.. الجمال والحب والألفة والنقاء والصفاء وراحة البال لم نعد نجدها بين وجوه أبناء هذا الجيل.. لم نعد نجد غير العتمة وضيق المعيشة وندب الحظ على ماض تليد كل شيء مختلف في عدن.. لا الناس هم الناس ولا الحال هو الحال كما كان.. البسمة غابت عن الشفاه والضحكة حل محلها الكآبة والحداد. لم نعد نرى في وجنتيها حُمرة الشباب ولا في عينيها لمعة الرضا والفرح ولا طعم ومذاق للحياة.. لم نعد نسمع عنها أي حكايات ولا قصص المغامرات التي كانت تتناقلها ألسن البحارة الحضارم الذين كانت سفنهم (العبارى) وقواربهم الصغيرة ترسو في مرافئ عدن وسواحلها التاريخية، يتوجهون إليها للاصطياد والعيش الكريم والعودة إلينا بأخبارها الجميلة والهدايا الرائعة. لم تعد عدن تفرد جدائلها وتغني للقمر وتراقص النجوم كما كانت تفعل سابقاً. غزاها الشيب في غير موعدها. والكاتب والقاص سالم العبد في عمق المأساة يرى أملاً في غد أجمل: “لا أحد سيجيبك على أسئلتك.. على الأقل في هذا الراهن الذي أجهز على ما تبقى من عدن.. ولكن عندما يأتي زمن تتحول فيه هذه الأسئلة إلى محفزات تاريخية ناضجة تبحث عن ما يتوجب لهذه المدينة المعانقة للحياة والمستقبل.. ما يتوجب لها من أسباب تعيد لها الحياة التي تستحقها للنهوض كمدينة تشارك العالم في رؤية مستجلية للحياة والحرية والمدنية وسباقات الأمم، في غد أجمل باستمرار يكون فيه الإنسان سيداً للحياة والمدنية والإشراق.. من يدري لعله يكون قريباً ونراه كما نحب”. ونحن نراه معك وننتظره عزيزي سالم. أما الشاعر د. علي عبدالكريم فيعلق :
“ حال المدينة يصعب على الكافر
عزيزي محمد:
نسأل من الكافر؟
تردد المدينة كفرة
المدينة من صلوا فجرا
وبعدها ذبحوا
الضحية منحوها
أوسمة .....غالية
لا تسمن روحا ازهقها
من أدوا الصلاة
الصامتة.”