لاشيء الآن يكسر حزني النبيل، على فراق صديقي الجميل كريم الحنكي، غير حزمة رسائل الأصدقاء الأعزاء التي تبعث في النفس بعض البهجة، الممزوجة ببعض المرارة ، فلا يمكن أن تغادر حالة الألم التي تجتاحك، وتنتقل إلى حالة أخرى معاكسة بهذه السرعة...
لايمكن أن تغادر تلك العتبات وتصبح في مكان آخر، إلا إذا وجدت شيئاً يلامس ذاكرتك القديمة، ويخترق مكنون نفسك ، ويلامس حواسك والمدينة التي أحببتها ومازالت رعشتها ملتصقة بكل ذرة في كيانك، وأسرارها المخبأة بذاكرة الشاعر والصديق الذي فقدته. وهذا بالذات مافعلته رسالة الصديق العزيز محمد الشقاع التي يجري فيها مقاربة جميلة بين “سانتوريني” اليونانية، ومدينتنا عدن التي أحببناها ونحبها أجمل ماتكون. وهذه هي الرسالة بنفس كلماتها والحروف ، وهي تستحق القراءة والوقوف عندها، وفهم معناها العميق والواضح جداً :
“أيامك سعيدة....
سانتوريني: حصار البحر للجبل
Santorini
بعد رحلة قصيرة من أثينا لم تتجاوز نصف ساعة، هبطت الطائرة في واحدة من أشهر جزر العالم: سانتوريني. جزيرة تشبه الحلم، تراها أولًا في صور “الإنستغرام”، ثم تعيشها بكل حواسك.
مبانٍ بيضاء متراصّة، وقباب زرقاء تتوسّد قمم الجبال، ترافقها حمّامات صخرية (جاكوزي عصري)، وبيوت محفورة في الجبل مثل الكهوف تطل على زرقة لا تنتهي من بحر إيجه. لوحة هندسية وتناغم بصري يبدو وكأنه خُطِّط بريشة فنان، لا بيد بشر.
الناس هناك وكأنهم جزء من معرض حيّ، بملابس يغلب عليها الأبيض والأزرق، كما لو أن ثمة اتفاقًا غير معلن على هذين اللونين. ألوان تنسجم مع المعمار والمكان بلا تصنّع، وكأنها امتداد طبيعي للطبيعة.
شوارع الجزيرة ضيقة، متعرجة بالكاد تتسع لشخصين في الاتجاهين، لكنها مليئة بالمفاجآت: محلات تذكارية متناثرة، مطاعم صغيرة نظيفة تقدم أطباقًا شهية، وأجواء دافئة. الأسعار غالباً ما تكون مرتفعة للسائح، لكنها مبرّرة بالجودة والموقع.
البحر… وجه آخر للجمال: في عرض البحر، تكشف لك سانتوريني عن وجهها الآخر. من القارب ترى الشواطئ المتنوعة بألوانها الغريبة: الأحمر، الأسود، والأبيض. ترى الصخور البركانية الداكنة، والبيوت التي تتسلق الجرف مثل حلم عنيد، والماء الصافي الذي يعكس زرقة السماء بلا تشويش. الرحلات البحرية حول الجزيرة من الأنشطة التي لا تُفوّت، إذ تمنحك منظورًا مختلفًا لهذا المكان الساحر.
رغم أن اليونان تمتلك أكثر من 6000 جزيرة، إلا أن المأهولة منها لا تتجاوز 227 جزيرة فقط. ومع ذلك، تجد فيها بنية تحتية، ونظامًاً، ونظافة، وتخطيطًاً يبعث على الإعجاب.
استدعاء الذاكرة:حين كنت طفلًا صغيرًا، زارنا الأستاذ حسين باوزير (النقابي المعروف)، صديق والدي ، العائد من رحلة إلى اليونان. (كعادة جيلي)، كنت أحضر مجالس والدي وأصغي إلى نقاشاته وحكاياتهم، وأحيانًا شقاواتهم البريئة. من تلك المجالس تعلمت الكثير.
كنت أسترق السمع لحديثهما، فانطبع في ذهني وصفه البسيط والعميق في آنٍ واحد:”جزر اليونان تشبه عدن، بجبالها السوداء وبحرها النقي.”
واليوم، وأنا أقف على ظهر قارب في مياه سانتوريني، وبعد أكثر من نصف قرن، أتأمل ما قاله الراحل، وأدرك عمق تشبيهه. هناك شيء من عدن هنا، لكن هناك أيضًا شيء نفتقده نحن: النظام، النظافة، والهدوء. كل شيء في مكانه، كل تفصيلة محسوبة. وهذا ليس سحرًا… بل استقرار مدروس.
بل إنني شعرت لوهلة أن سانتوريني تشبه كريتر، مدينتي – تلك الحاضنة التي تربّيت فيها، الملتحفة بالجبال من كل جانب، والمحاطة بالبحر. كأن الجبل والبحر اتفقا هناك كما اتفقا هنا: هم يسكنون فوق الجبل، ونحن نسكن في كنفه وفي ظله… ليحتضن المدينة ويمنحها حضورًا مميزًا.
وهنا تتضح الحقيقة: الجمال لا يكفي، والتاريخ لا يصنع نهضة وحده. البلدان لا تنمو بقدر أحلامها، بل بقدر ما تنظّم تلك الأحلام وتحميها من الفوضى. الاستقرار ليس مجرد حالة سياسية عابرة، بل شرط أساسي للحياة الكريمة. هو ما يجعل المدينة مدينة، والوطن وطنًا.
فحين يكون هناك حكم عادل، مؤسسات فاعلة، وشعور بالعدالة والأمان، يبدأ الجمال في التفتح، وتتحول الفوضى إلى حضارة، والحلم إلى واقع.
نحن في أمسّ الحاجة إلى هذا النوع من الاستقرار – لا لنكون مثلهم، بل لنكون نحن… كما يجب أن نكون”.
سانتوريني : محمد الشقاع