في برنامج على إحدى قنوات التلفزيون العربية، تابع المشاهد العربي يوم الجمعة الماضي، نموذجاً حيّاً لما يمكن أن يصل إليه المتطرّفون الإرهابيّون في تفكيرهم وعقيدتهم وأعمالهم من وحشيةٍ ودمويّةٍ وإجرام.كان ضيف البرنامج هو «شحادة جوهر» أمير تدريب «القاعدة» في العراق سابقاً، وأكثر ما يثير الجدل في اللقاء هو أنّ الضيف كان صريحاً بشكلٍ غير مسبوقٍ من قبل في حديث أعضاء جماعات العنف الديني في العالم العربي والإسلامي، لقد كان صريحاً لا في أفكاره فحسب، بل حتى في الحديث عن طبيعة التنظيم وهيكليته وأفراده ومسؤولياتهم، بل وصل به الأمر للحديث عن قتله شخصياً عدداً ممن يسمّيهم الكفّار سواء من الأميركيين أو العراقيين أو الفلسطينيين، بدم بارد ولهجة جامدة!! كان يلقي أخطر الاعترافات ثمّ يتبعها –باسماً- بكلمةٍ أثيرةٍ لديه: «عادي.. شو وين المشكله يعني!»، فهو عندما درّب إرهابيي «القاعدة» على القتل والتفخيخ وحرب العصابات، كان هذا بالنسبة له أمراً عادياً، وعندما قام بخطف بعض العراقيين كان هذا أمراً عادياً، وعندما قتل بعضهم وفجر آخرين كان هذا –كذلك- أمراً عادياً!! وأخيراً.. عندما يقول إن سوريا عرضت على الزرقاوي دعمه بالمال والسلاح.. وكل ما يحتاجه، فإنه عند نفسه لم يقل إلا أمراً عاديا!ً!اللقاء يثير أسئلة أكثر بكثير مما يقدّم من إجابات، بل إن الإجابات التي ألقاها "شحادة جوهر" ذات اليمين وذات الشمال يشعل كل منها أسئلة لا تنتهي، ذلك أنّ هذا اللقاء يجعلنا نستمع لأول مرةٍ في تاريخ جماعات العنف الديني إلى شخصٍ ينتمي إليها، ويتحدّث عن كلّ تفاصيلها بعفويةٍ وتلقائيةٍ، وكأنه يتحدّث إلى بعض أتباعه وليس إلى العالم من خلال الإعلام!!من أهمّ المسائل التي أثارها اللقاء، مسألة الهيكل التنظيمي لتنظيم «القاعدة» في العراق، ومسألة تمويل التنظيم من خلال السرقة التي يسمّيها "جوهر" بـ"الغنائم"، ومسألة العلاقة مع سوريا وكونها تسهّل ممراً آمناً للإرهابيين إلى العراق، وتقدّم لهم الدعم المادي والمعنوي، ومسألة التبريرات الدينية التي يتداولها أعضاء التنظيم فيما بينهم لعملياتهم الإجرامية.كان شحادة جوهر "شبلاً" مع أشبال حركة "فتح"، ثم التحق بعصبة الأنصار، وهي الجماعة الإسلامية الأكثر تشدداً في مخيّم عين الحلوة الفلسطيني، ثمّ ذهب إلى العراق بأمرٍ من قيادة عصبة الأنصار لغرض تدريب عناصر "القاعدة"، ثمّ عاد إلى المخيّم بعد أدائه مهمّته التي لم تقتصر على التدريب فحسب، بل شملت الخطف والقتل والتفخيخ والتفجير، وقد ذكر في المقابلة أنه يشتغل "بتجارة السلاح"، لأنها كما يقول: "أحسن تجارتين بلبنان: السلاح والدواء"، وقال عن مرحلة تولّيه التدريب في العراق: "كنت أدرّب الإخوة على حرب العصابات .. قتال الشوارع والاقتحامات والكمائن والإغارة"، "كنّا نقوم بعمليات ضد الأميركان، وضد السيطرات"، ويؤكّد: "كنت أميراً للتدريب، وكان عندي معسكر تدريب بحديثه، في منطقة البساتين"، ويضيف: "أنا مرة خطفت واحدا، شو المشكلة يعني؟ لأنه كان يتعامل مع الأميركان". وحديثه عن رجل العصابات وأنواع أسلحته، يدلّ على تمرّسٍ في هذا المجال، هذه باختصار شديد أرجو -ألا يكون مخلاً- قصّة هذا الرجل.تردّدت على لسانه العديد من المفاهيم "القاعدية"، مما يدلّ على أنّه قد تشرّب هذه المفاهيم وامتلأ قناعةً بها، ولكنّه لا يتقنها حقّ الإتقان، فهو ضدّ "القوانين الوضعية" لأنها «كفرٌ»، وهو يرى أنّ جهاد الدفع فرض عين وجهاد الطلب فرض كفاية، وأن "القتال في فلسطين أولى من غيرها"، ويشدّد على أنّ "ملّة الكفر واحدة، الكفر كفر، إن كان فلسطيني كافر، وإن كان يهودي كافر، يعني العراقي المرتد أو يساند الأميركان، حكمه أصعب من الأميركي". ويبرّر قتل الأبرياء في عمليات التفجير، بأن ذلك "مش تمترس، ولكن هناك حديث عائشة يبعثون على نيّاتهم".هذه الأدبيات هي أدبيات جماعات العنف الديني، يردّدها هو بطريقةٍ تدلّ على جهله بها، وأنه من الناس الذين تلقّوها بألسنتهم، وهو ما يثير الجدل حول هذه المفاهيم التي تمنح رؤية مختصرة وسهلة الفهم للواقع بكل تعقيداته، وتسهّل بالتالي إقناع الأتباع في التنفيذ بأنّ ما يصنعونه حتى وإن كان جريمة إنسانية ودينية كبرى، ما هو إلا جهادٌ في سبيل الله!ليس هذا فحسب هو المثير في هذا اللقاء، بل هناك ما هو أكثر إثارةً، فهو تحدّث عن أكثر اللاعبين في الساحة السياسية في العراق والشرق الأوسط، فتحدث عن "حزب الله" تلميحاً بقوله: "حتى من يقاتل اليهود بيقاتل اليهود لحسابات خاصة به مش عن عقيدة"، ويكرّر: "الكلّ بدون استثناء ما بده الشاب المسلم يقاتل اليهود".ثمّ يتطرق بالحديث لموضوع شديد الحساسية وهو موضوع علاقة سوريا بتنظيم "القاعدة" في العراق، فيقول: "طلع ناس سوريون من المخابرات السورية أعدوا (قعدوا)، طلبوا من الشيخ أبو مصعب إنه يا خي شو بدك سلاح غيره، ولكنه رفض حتى لا يقال إننا نتعاون مع السوريين"، ثمّ يشرح ذلك بأن "السوريين مش من صالحهم تهدأ العراق ولا ساعة، كل ماهي العراق خربانة كل ما هم مرتاحون"، و"أكثر ناس مستفيدين من الخراب بالعراق هم السوريون".وفي سياق حديثه عن الوضع في سوريا، والبيوت الآمنة المخصّصة للقادمين للقتال في العراق وعمليات نقلهم، كلّها تشير إلى أنّ هؤلاء الأشخاص مرحبٌ بهم هناك، ولا أدري لماذا وأنا أسمعه يتحدّث عن سوريا تبادرت إلى ذهني مقارنة لوضعها اليوم مع العراق بوضع باكستان مع أفغانستان إبّان الغزو السوفييتي لها، المصطلحات نفسها والتنسيق نفسه وآليات العمل ذاتها؛ "مضافات"، "منسقي استقبال وتفويج".. بل إنه أقرّ بنفسه بأن "هناك عملاً منظّماً لتنسيق دخول الشباب إلى العراق". وحين يصف رحلته من الشام إلى العراق يقول: "إحنا كنّا بالسيارة تسعة عشر، التقينا في سوريا وانتقلنا في سيارة واحدة إلى العراق"، تسعة عشر مقاتلاً في سيارة واحدة يتجهون للعراق في أمنٍ وأمانٍ، هذا أمرٌ يزيد من حرارة التساؤلات السابقة، خاصّة وهو يختم حديثه بالقول: "الشيخ أسامة ما بده ساحة لبنان ولا ساحة سوريا"!وهو يقدّم إضافة جديدة حين يتحدّث عن تمويل "القاعدة" فيقول: كان "هناك إخوة مختصين بالغنائم"، ويضيف "بالنسبة للسيارات بعضها كان للإخوة، وبعضها غنائم نغنمها من الأميركيين أو نغنمها من العراقيين"، ويفصّل أكثر حين يقول: "كان يجي مساعدات من برّا، ومن الغنائم أيضاً، نبيع السيارات للأكراد، الأكراد بيشتروا حتى سيارات الشرطة، أغنى ناس بالعراق الأكراد ثم الشيعة وأفقر شيء السنّة".إنه باختصار يبرّر قتل الأبرياء بأحاديث وتأويلات أوهى من خيط العنكبوت، ويتحدّث عن السرقة على أنّها غنائم وهي «أحلّ الحلال» حسب تعبيره، ما يذكّرنا بسرقات جماعات العنف الديني في بلدان أخرى وتجارب سابقة، فيذكّرنا بسرقة الجماعة الإسلامية في مصر لمحلاّت المجوهرات التي تعود ملكيتها للأقباط، وسرقات جماعات العنف في الجزائر وغيرها.لقد تحدّث – كذلك - عن جنسيات مقاتلي «القاعدة» في العراق، وعن هيكل «القاعدة» التنظيمي هناك، وعن طريقة »«قاعدة» في التدريب وتنفيذ العمليات، وعن علاقة «القاعدة» بالقبائل، وغيرها الكثير والمثير، مما يستدعي القراءة ويستوجب التوقف والتأمل.[c1]*عن / صحيفة "الاتحاد" الإماراتية[/c]
صناعة الموت
أخبار متعلقة