[c1]سعود البلوي*[/c]في المجتمع العربي والإسلامي هناك فئات معينة (جماعات) تنامى إلى تفكيرها - نتيجة صدمة ثقافية وحضارية كبيرة - أنها تمتلك العصا السحرية لحل جميع مشاكل المجتمع المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.هذه العصا تتمثل بـ(الدين) كخيار وحيد. والدين هنا - بمفهوم هذه الجماعات - ليس العبادات بقدر ما هو اتخاذ سبيل سياسي معين يقوم على الدين للتوصل إلى غايات محددة تمهد لاعتلاء هرم السلطة السياسية.فبعض الجماعات السياسية-الدينية (كالإخوان المسلمين مثلاً) تتبنى موقفاً صارماً وجامداً ضد الحكومات، بحجة عدم أهليتها في إدارة شؤون البلاد والمجتمع؛ لما تسببه من فساد سياسي واجتماعي لأنها حكومات علمانية لا تقيم الحكم الشرعي بل تعتمد الدساتير الوضعية المستوردة من الغرب لتسيير شؤون المسلمين.وبذلك ناصبت السلطة العداء، وتعمل على تأليب الرأي العام ضدها لتبرير مواقفها المتزمتة، جاعلة المجتمع أمام خيارين (الإسلام) أو الكفر. ومن المعروف عن معظم المجتمعات العربية والإسلامية أنها ذات عاطفة دينية جياشة؛ لذا ستتجه تلقائياً لما يدغدغ المشاعر، رغم أن طروحات تلك الجماعات تعتمد على إزاحة السلطة الحالية بقوة السلاح للوصول إلى مآربها.وهذا مماثل لما انتهجته "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" في الجزائر، التي اختارت العمل المسلح شعوراً منها بالأحقية في قيادة البلاد والعباد، منتخبةً نفسها كأفضل فئات المجتمع على الإطلاق.. رغم أن البلاد والعباد قد عانيا الأمرّين بسبب الفكر الإسلاموي المتطرف، حتى إن البلاد اتجهت نحو المجهول-في فترة من الفترات- ولم تستقر أمورها نسبياً سوى بعد انتخاب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، الذي طرح مؤخراً مشروع المصالحة الوطنية، والذي يأمل الشعب الجزائري أن يكون بوابة العبور إلى الاستقرار السياسي.وهناك حركات إسلاموية أخرى انتهجت الفكر المتطرف نفسه، مع فارق بسيط في النتائج، حيث قدِّر لها تطبيق أيديولوجيتها على الأرض، كتجربة (طالبان - القاعدة) في أفغانستان، التي تنطلق من فكرها الديني المتشدد كمحرك رئيس لجميع تصرفاتها السياسية. فطالبان - أياً كان وراء قيامها - أثبتت فشلاً ذريعاً لمشروعها الهش، منذ تطبيق أفكارها المتخلِّفة وتسلطها السياسي على الشعب الأفغاني باسم الدين، حيث عادت بأفغانستان قروناً طويلة إلى الخلف وجعلته في عزلة تامة عن العالم الخارجي... حتى سقطت سقطتها الأخيرة التي لم تقم منها.وحين نسلط الضوء على مثل هذه التجارب التي باءت بالفشل، نتذكر-رغم المفارقات- التجربة الفريدة للمهاتما (غاندي) في العمل السياسي السلمي القائمة على ثقافة (اللاعنف) حين وقف ومؤيدوه في وجه بريطانيا العظمى،رغم أن خطواته تلك لم تلق تأييد بعض الساسة من أبناء الشعب الهندي، ولكنه بانتهاجه التسامح الديني والعمل السلمي وفق فلسفة عميقة؛ أثبت للعالم أن المعارضات على الطريقة السلمية لا بد أن تؤتي ثمارها ولو بعد حين.وبما أن الحديث يدور حول الإسلام السياسي، لا بد لنا من الوقوف عند تجربة مؤثرة لا يمكن إخراجها، بأي حال من الأحوال، من محيط الفكر السياسي الإسلامي، ونقصد بذلك (الثورة الإسلامية) في إيران.لقد أمِل الشعب الإيراني-الذي كان يعيش مشكلات سياسية- أن يكون الحل السحري لجميع مشاكله قد جاء على الطائرة الفرنسية القادمة من باريس التي تُقلُّ الإمام الخميني بعد خروج الشاه محمد رضا بهلوي من إيران في العام الأخير من سبعينيات القرن الماضي.خرج الإيرانيون بالآلاف لاستقبال الإمام- الرمز الديني والسياسي الأوحد على الساحة الإيرانية... لقد بنى الخميني الجمهورية على فكرة رئيسة لا يمكن الحياد عنها (ولاية الفقيه) لتجعل منه رمزاً لا يمكن تجاوزه مهما كانت الظروف، إذ تدور اللعبة السياسية -على الطريقة الديمقراطية الإيرانية- حوله ولا تقترب منه كثيراً؛ كونه السلطة العليا التي تتحكم في تحديد خطوط ومسارات العملية السياسية في الداخل والخارج.اتخذت جمهورية الثورة نهجاً متشدداً أثّر على أوضاعها الداخلية والخارجية، حيث توترت العلاقات الإيرانية مع دول الجوار؛ أفرز هذا التوتر حرباً شعواء عززتها رعونة صدام وسوء خياراته السياسية والعسكرية.استمر الجمود الإيراني زمناً غير قصير، حتى انتخب الدكتور محمد خاتمي رئيساً للجمهورية الإيرانية عقب معركة حامية بين الراديكاليين والإصلاحيين، حُسم أمرها لصالح الطرف الأخير.نجح الرئيس محمد خاتمي في إعادة ربط إيران بالعالم الخارجي (عدا الولايات المتحدة الأمريكية التي اعتُبرت -وفق فتوى الإمام الخميني- الشيطان الأكبر)، ولاقت طروحاته الفكرية (حوار الحضارات) صدىً عالمياً واسعاً، فأسهمت في دعم الحوار لتجسير الهوة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي.إلا أن خاتمي اصطدم بمعوقات كبيرة على المستوى الداخلي بسبب انفتاحه ومشروعاته الإصلاحية التي تصدّى لها التيار المتشدد الذي يحظى بدعم مرشد الجمهورية.إن المتتبع للشأن الإيراني يلاحظ محاولات التمرد من قبل جيل الثورة الجديد على مبادئ الثورة الممتدة نحو أكثر من ربع قرن، إذ اتضح أن بوادر التغيير لابد أن تنبثق من رحم الثورة نفسها، فبدأ الشباب بالتأثر الحتمي بالحضارة الغربية، وتنبّه رجال الدين في إيران إلى هذا الأمر مؤخراً، لتبدأ حملات ملاحقة الفتيات (غير المحتشمات)، والاحتشام هنا يعني الالتزام بالزي الإيراني التقليدي للنساء، مما دعا إلى ضرورة معاقبتهن جسديّاً وإقامة البرامج الإرشادية لهن، وإبقائهن تحت المراقبة! وفي صفوف الكتّاب والمثقفين، بدأت موجة الاتهامات بـ(الإساءة للإسلام) تطال كثيرين في الصحافة الإيرانية تتراوح أحكامها بين السجن والإعدام!في خطاب ترشحه لولاية ثانية بكى الرئيس خاتمي اعتذاراً من شعبه فاغرورقت عيناه بالدموع في شاشات التلفزة العالمية... لقد أدرك هذا الرجل أن الأمور في إيران تتجه نحو الانحدار، وأن قبضة (الولي الفقيه) أحكم من أي قبضة أخرى. وقبل أيام عادت الكرة السياسية إلى ملعب المحافظين بعد انتخاب (محمود أحمدي نجاد) رئيساً للجمهورية الذي وإن لم يكن (متعمِّماً) إلا أنه ينتهج فكراً متشدداً قد يتجه بالبلاد ناحية المجهول.. وفي ظل ذلك يوجد في المجتمع الإيراني من يتمنى-ولو بصمت- عودة عهد الشاه بكل مفارقاته.. إلا أن الزمن لن يعود إلى الوراء. * نقلا عن جريدة "الوطن" السعودية
الإسلام السياسي والحل السحري
أخبار متعلقة