أصبحت الديمقراطية اليوم هي النظام الذي يتجه إليه «أغلب» العالم، شرقيه وغربيه، بحيث يمكن القول اننا اليوم نعيش عصر الديموقراطية. لم تعد الديمقراطية، حسب تقدير الكثيرين، خياراً بين خيارات، كما كان الأمر حتى الأمس القريب، بقدر ما أصبحت، كما أرى نوعاً من الحتم، إذا كانت الدولة والمجتمع يريدان الانخراط في عالم تحول إلى كيان واحد، بقيم مشتركة، ومنطلقات متناسقة، وإلا فهي العزلة ومن ثم الضمور في عالم لم تعد فيه العزلة خياراً. وبعيداً عن كون الديمقراطية هي روح هذا العصر، فإنها أثبتت تاريخياً أنها هي النظام الأكثر قدرة على الحفاظ على السلم الاجتماعي في المدى الطويل، وذلك حسب التجربة الديمقراطية كما طبقت في أميركا وأوروبا الغربية، خصوصا إذا ما كانت مؤسسة على قواعد، أو بنية تحتية قوية، وليست مجرد ممارسة جزئية تأخذ البعض غير المهم، وتترك البعض الأهم. والعرب جزء من هذا العالم، أو أن عليهم أن يعلموا أنهم جزء من هذا العالم وتفاعلاته، وبالتالي فلا يمكن لهم إلا أن يكونوا جزءاً من هذه التفاعلات، إلا إذا كان الضمور هو الخيار، وهو خيار من لا خيار له في نهاية المطاف. سؤال الديمقراطية هذا دائماً ما يثور في ذهني، وأنا أرى التجارب الديمقراطية في ديار العرب، وهي فعلاً مجرد تجارب، تفشل وتتهاوى واحدة بعد الأخرى، فيما هي ناجحة في معظم ديار الآخرين، سواء كانوا من الغرب أو من الشرق، وإن فشلت مرة فهي لا تفشل مرتين، وإن سقطت مرة فإنها تعود للنهوض من جديد، مستفيدة من أخطاء الماضي، ومصممة على نجاح التجربة التي لم تعد تجربة. لماذا يفشل تطبيق الديمقراطية في بلاد العرب فيما هي ناجحة في ديار الآخرين؟ سؤال كبير قد يحتاج إلى أكثر من مقالة عاجلة في محاولة الإجابة عليه، ولكن بعضاً من جواب، أو محاولة جواب، خير من عدم الجواب. يبدو أن الجواب يكمن في أن كل «التجارب» الديمقراطية العربية، سواء تلك التي كانت قبل أن يلج العسكر متاهة السياسة، أو تلك التي صارت بعد ضياع العسكر في متاهة السياسة، مارست الديمقراطية شكلاً، ولكنها لم تحاول أن تُنشئ بنية تحتية حقيقية وراسخة للديموقراطية، بما يكفل استمرارها عن طريق تجذيرها في المجتمع قبل السياسة. وإذا كان هنالك عذر لتجارب ما قبل العسكر في الفشل والسقوط ، فلا عذر يبرر ما يجري بعدما تبين فشل العسكر. الاقتصاد القوي لا يقوم دون بنية تحتية يستند إليها، وكذلك هي الحياة السياسية عموماً، والأنظمة السياسية خصوصاً، والديمقراطية نظام سياسي لا يستقيم دون بنية تحتية هي أساس كل بناء. فالديموقراطية، والديمقراطية الليبرالية تحديداً، ليست ممارسة سياسية وحسب، بقدر ما أنها أسلوب حياة، وسلوك اجتماعي معين، مؤطر بثقافة لا تستقيم الممارسة الديموقراطية دونها. وكما أن الاقتصاد المنطلق يحتاج إلى اتصالات ومواصلات ومؤسسات كبنية تحتية لا يمكن النمو بدونها، فكذلك بناء الديمقراطية يحتاج إلى بنية تحتية، أو لنقل شبكة من الأمور التي لا تستطيع الديموقراطية من دونها. تتكون هذه الشبكة، أو لنقل البنية التحتية للديمقراطية، من عدة أمور، ولكن يمكن تلخيصها في أربعة أركان هي: الثقافة والتعليم والمأسسة والقانون. فبدون ثقافة ديمقراطية، وعقل ليبرالي، ونظام تعليمي يزرع هذه القيم في النفوس قبل العقول، ومجتمع مدني فاعل، ونظام قانوني يؤطر التفاعل بين وحدات المجتمع ويحمي حركتها واستقلاليتها، فإنه لا يمكن الحديث عن ديمقراطية، حتى لو كان هناك صندوق اقتراع، أو كان هناك أحزاب وانتخابات دورية، وذلك بمثل ما أنه لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد ناجح دون شبكة من الطرق الجيدة، أو سلسلة من الموانئ القادرة على الاستيعاب. فالثقافة الديمقراطية، والعقل الليبرالي الذي لا يمكن الحديث عن ديمقراطية بدونه، هما الأساس لأي ممارسة ديمقراطية ناجحة، وحجر الأساس في أي بناء ديمقراطي. هذه الثقافة تتكون من قيم عدة، لعل أهمها قيم الحرية (حرية الحركة في إطار القانون)، والمساواة (في المواطنة وأمام القانون)، والفردية (بوصف الفرد أساس كل مجتمع)، والتعددية (بوصفها طبيعة الحياة)، والتسامح (للكل حق الإيمان بما يشاء، ولكن لا حق لأحد بفرض إيمانه على الآخرين). ومن هذه القيم الأساسية تنبثق قيم فرعية أخرى كلها تصب في نفس المصب في النهاية. ومن هذه القيم، الفرعي منها والرئيسي، تتشكل القناعات والممارسات. فعلى أساس قيمة الحرية، تقوم حرية القول والمعتقد والتجمع، وغيرها من حريات مدنية. وعلى أساس قيمة المساواة، تقوم فكرة المواطنة التي لا تستقيم دولة حديثة، ديموقراطية كانت أو غير ذلك، دون أن تكون المواطنة هي المرجعية في العلاقة بين السلطة والفرد، وبغير ذلك لا يمكن أن تكون دولة بالمعنى الحديث. وعلى أساس قيمة الفردية، تقوم فكرة الإنسانية وكرامة الإنسان، فالفرد في النهاية هو الكيان الملموس للإنسان، بعيداً عن الفذلكات الفلسفية، والتأويلات الإيديولوجية، التي تقضي على الإنسان باسم الإنسان. وعلى أساس قيمة التعددية، تقوم فكرة أن الاختلاف هو الأساس: هكذا خلق الله الدنيا، وهكذا أراد لها أن تكون، وإلا لكان قادراً منذ الأزل على أن يجعل كل الناس أمة واحدة، ومعتقداً واحداً، ولون الحياة بلون واحد لا لون غيره. وعلى أساس قيمة التسامح، تقوم فكرة أن الكمال لله وحده، وأن الحق المطلق لا يعرفه إلا الحق، أما البشر فهم مجرد مجتهدون في هذه الدنيا، لكل حقيقته النسبية، حتى لو زعم أنها حقيقة مطلقة، وهذا الاجتهاد والسعي وراء الحقيقة، هو أساس كل حضارة خالدة وذات قيمة في التاريخ، وإلا فإنه السكون والشلل ومن ثم الضياع في غياهب التاريخ. هذه الثقافة لا يمكن لها أن تهيمن وتسود دون أن يكون هنالك نوع من التنشئة قائمة على أساسها، ووفق منطلقاتها. مؤسسات التنشئة عديدة متعددة، ولكن أهمها، وأكثرها تأثيراً هو النظام التعليمي، الذي يرعى العقول منذ الصغر وحتى الكبر. العائلة، والدعاية والإعلام وغيرها، مؤسسات مهمة في التنشئة، ولكن نظام التعليم هو الأهم، فبدونه لا مؤسسات أخرى قادرة على التأثير المرجو، والثقافة المبتغاة. لقد أقام أفلاطون جمهوريته المثالية على أساس نظام تعليمي صارم، مهمته الفرز وزرع القيم في الرؤوس، وما يهمنا في جمهورية أفلاطون هو تأكيدها على أهمية نظام التعليم، بصفته العمود الفقري للدولة وقيمها، وليس القيم التي كان أفلاطون يسعى إليها ويبني جمهوريته على أساسها. إذ حتى لو كان هنالك نظام ديمقراطي مُمارس في الأعلى، وقيم ديمقراطية منصوص عليها في الدستور، وكانت مؤسسات التعليم تلقن قيماً أخرى مناقضة لما هو معلن عنه، فإن النهاية ستكون الفشل كل الفشل. وهذه القيم كلها لا تعدو أن تكون مجرد تنظير وتجريد إن لم تترجم إلى واقع ملموس، ومن هنا تدخل المأسسة في المشهد. فالمأسسة هي ترجمة القيم السابقة إلى واقع ملموس، يستطيع الفرد من خلاله ممارسة هذه الحقوق وتلك الحريات، وإلا فإنها لا تعني شيئاً، حتى لو قال بها الدستور، وتغنى بها النظام. والمأسسة هنا، بوصفها جزءاً من البنية التحتية للديمقراطية، لا مؤسسات سياسية فوقية تالية، لا تعني أكثر من وجود مجتمع مدني واسع وفاعل، يتمتع فيه الفرد، كحق من حقوقه، بحرية التعبير عن ذاته بشتى الوسائل، وتجسيد هذا التعبير إلى واقع ملموس. وكلما قل فضاء السلطة السياسية، وازداد فضاء المجتمع الأهلي، كانت فرصة نجاح التجربة الديمقراطية أكبر وأكبر. فالمجتمع المدني هو في النهاية الترجمة الفعلية لكافة القيم السابقة، سواء كنا نتحدث عن قيم الحرية أو الفردية أو التعددية أو التسامح أو المساواة، من حيث أن الفرصة متاحة لكل أحد في التعبير عن ذاته تعبيراً حراً وسلمياً. لقد كان أشد ما جذب «اليكس توكفيل» في التجربة الديمقراطية الأميركية في بدايات ترعرعها، هو تلك الروح التطوعية لدى المواطن الأميركي، التي تدفعه إلى أن يقوم بالبناء دون أن يكون ملزماً بذلك، وهو أمر ما كان ليستقيم لولا أن فضاء المجتمع المدني كان أكبر من فضاء السلطة السياسية، هذا الفضاء، أي السياسي، الذي شكل خنفاً للحياة في أوروبا توكفيل. ولكن، كل هذه الأمور، من ثقافة ومأسسة وما يتفرع عنهما من قيم أخرى وسلوكيات محددة، لا يمكن أن تتمتع بالاستقرار والبقاء دون قانون ينظم الحركة ويؤطر التفاعل بين وحدات المجتمع المختلفة، فالقانون هو القيد الذهبي كما ذهب أفلاطون وفلاسفة الإغريق. فالحرية والتعددية دون قانون هي الفوضى بعينها. والفردية دون قانون هي عين الأنانية. والمساواة معدومة دون إلزام القانون. والمجتمع بشكل عام، هو صراع ناب ومخلب بهذا الشكل أو ذاك، عندما ينتفي القانون. القانون هو المؤطر لكل تلك القيم، وهو، وهذا هو الأهم، الحامي لتلك القيم، وبدونه لا معنى لأي شيء. وبهذا المعنى، هنالك مقولة لفلاديمير لينين صحيحة شكلاً، وإن تحولت إلى كارثة حين التطبيق بعد ذلك. يقول لينين إن الحرية قيمة غالية، ولذلك يجب تقنينها، وهو محق في القول، ولكنه خنق الحرية حين قننها، من حيث أنه أفرغها من محتواها، ولم يعد هناك من حرية إلا حرية الحزب الوحيد والأوحد. وحقيقة هذا أمر طبيعي بالنسبة للتجربة السوفيتية التي لا تشكل أي من القيم المتحدث عنها آنفاً، جزءاً من ثقافتها السياسية أو المجتمعية، ولكننا نتحدث هنا عن تجربة مختلفة، أو يُفترض فيها أن تكون مختلفة. إذاً هي الثقافة، وهي التعليم، وهي المأسسة، وهو القانون: هذه هي البنية التحتية لأي تجربة ديمقراطية ناجحة، فهل تتوفر مثل هذه البنية في أي مجتمع عربي، أو حاول وضع أساسها أي نظام عربي؟ سؤال لعل محاولة إجابته تكون في مقال آخر. ـــــــــــــــــــــــــــــ[c1]نقلاً عن/ صحيفة ( الشرق الأوسط)
في الحديث عن الديمقراطية..
أخبار متعلقة