
لقد بات الواقع اليومي في كثير من مناطق البلاد أشبه بمشهد مفتوح على الألم، تتصدّره المعاناة في تفاصيل الحياة اليومية. فالوضع السياسي المأزوم، والانقسام المستمر، والحسابات الضيقة، كلها أفرزت واقعًا هشًا، ساهم في تدهور البنية المؤسسية، وأضعف من قدرة الدولة على تقديم أبسط الخدمات الأساسية.
حيث يبقى الملف الاقتصادي هو الأشد وطأة على حياة المواطنين، حيث انهيار العملة المحلية، وغياب الاستقرار المالي، وارتفاع الأسعار بصورة جنونية، في مقابل انعدام الدخول، وتوقف وعدم انتظام المرتبات في عدد من القطاعات الحكومية. لقد تحول الاقتصاد إلى عبء ثقيل على كاهل المواطن الذي لم يعد قادرًا على توفير قوت يومه أو متطلبات أسرته الأساسية.
وبينما تمتلئ الأسواق بالبضائع، فإن القدرة الشرائية شبه معدومة، والفقر يتسع، والبطالة تتفاقم، دون وجود حلول ناجعة أو تدخلات حكومية تلامس عمق المشكلة. والمؤسف أن كل ذلك يحدث في بلد غني بموارده، لو أُحسن استغلالها.
ان تراجع الخدمات وتدهور البنية التحتية على صعيد الخدمات العامة، فقد باتت الكهرباء حلما لايحقق والمياه أزمة، والدواء رفاهية لا يقدر عليها إلا الميسورون. كما أن التعليم يعاني تراجعا ملحوظا، من حيث البنية المدرسية ونقص المعلم والكوادر والتجهيزات، مما ينذر بجيل قد لا يجد في المستقبل أدواته التي تمكنه من النهوض بوطنه.
المرافق الصحية هي الأخرى تعيش وضعا صعبا، إذ أصبحت أغلب الوحدات الصحية والمستشفيات الريفية تفتقر للأدوية والمستلزمات الأساسية، فيما يُترك المرضى يواجهون مصيرهم في صمت.
المواطن ضحية التجاذبات
في خضم هذا المشهد المأزوم، يقف المواطن وحيدا، محاصرا بأزمات لا تنتهي، تتنازعه احتياجاته اليومية، وأعباؤه المتزايدة، دون أن يجد يدًا تسعفه، أو قرارا ينصفه. لقد بات المواطن البسيط وقودا لصراعات لا تعنيه، وضحية لسياسات لم تبْن على رؤية، بل على مصالح فئوية ضيقة.
المخرج من الأزمة.. إرادة سياسية وطنية
رغم كل ذلك، لا تزال هناك فسحة أمل، شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية الصادقة، وأن تُغلَّب المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة، وأن تعاد هيكلة مؤسسات الدولة على أسس الكفاءة والنزاهة والعدالة، لا على أسس الولاء والفساد والمحسوبية.
لقد آن الأوان لتبني مشروع وطني اقتصادي، يستثمر موارد البلاد الطبيعية، ويوجهها نحو دعم الإنتاج المحلي، وتحقيق الأمن الغذائي، وتوفير فرص العمل، وتحسين معيشة المواطن، بعيدا عن الخطابات الإنشائية والوعود التي لم تنفذ.
إن الحديث عن الوطن لا يختصر في مقال، لكن واجب الكلمة أن تظل يقظة، حاضرة، شاهدة. فالوطن أمانة، والمواطن ليس مجرد رقم أو عابر سبيل، بل هو الغاية والوسيلة، هو من يستحق أن يصغى لصوته، وأن يمنح حقه في حياة كريمة، ومستقبل يليق بتضحياته وصبره الطويل.
معاناة صامتة
في زوايا الحياة الهادئة، حيث لا تصل الأضواء ولا تسير الكاميرات، يعيش البسطاء معركتهم اليومية في صمتٍ لا يسمعه أحد، وكفاحهم المرير في سبيل لقمة العيش والستر. لا يتذمرون، ولا يطالبون بالكثير، فقط يريدون حياة كريمة، بيتا يؤويهم، وابتسامة لأطفالهم تضيء ليالي الفقر والتعب.
البسطاء هم اهل البيوت الكبيرة والعمال الذين يستيقظون قبل الشمس ليكسبوا ما يسد الرمق، وهم النساء اللاتي يحملن أثقال الأسر العائلية على أكتافهن دون أن يشتكين. هم الطلاب الذين يدرسون على ضوء الشموع، يحلمون بمستقبل أفضل وسط واقع البلد الخانق. لا ترف يرافقهم، ولا ترفيه يعرف طريقه إلى بيوتهم، لكن قلوبهم ملأى بالرضا، وأرواحهم مشبعة بالأمل.
وجوه متاعبهم تبدأ منذ الفجر، حيث لا مكان للراحة. عامل البناء تحت الشمس الحارقة، بائع الخضروات على قارعة الطريق، راعية الماشية في البوادي والوديان وعاملة التنظيف التي تحني ظهرها لساعات. هم العمود الفقري لكل مجتمع، لكنهم في كثير من الأحيان مجرد ظلال تمر دون تقدير.
يقفون في طوابير طويلة على افران الاطعمة وأخرى للحصول على كيس دقيق أو جالون ماء. يتحملون ارتفاع الأسعار وتجاهل السياسات لهم، لكنهم لا يثورون إلا حين يبلغ القهر أقصى مداه. يواجهون المرض بلا دواء، والشيخوخة بلا ضمان، والتعليم لأبنائهم بلا دعم، ورغم كل هذا، يتمسكون بالحياة بإيمان عجيب.
هنا ما يدهشك في البسطاء ليس فقرهم، بل كيف يحوّلون الفقر إلى حياة. كيف تصنع الأم من الخبز اليابس وجبة حنونة، وكيف يصنع الأب من عرق جبينه شرفا يعلّم به أبناءه. هم لا يملكون الكثير، لكنهم يمنحون الكثير.. دفئا، حبا، وتضحيةً لا تقدر بثمن.
قلوبهم الكبيرة تسبقهم في كل شيء. يقتسمون لقمتهم مع الجار، ويواسي بعضهم بعضا في المصائب، ويقيمون الأفراح بما توفر لديهم من زادٍ بسيط وفرح كبير. هم الذين إن شكرتهم خجلوا، وإن أعطيتهم دعوا لك بالجنة.
أين نحن من البسطاء؟ لا يحتاجون إلى شفقة، بل إلى عدالة.. إلى من يراهم ويسمع صوتهم المكبوت، إلى من يصنع لهم سياسات تنصفهم لا تقصيهم. لا يريدون صدقات، بل فرصًا. لا يحتاجون للمن، بل لمن يمنحهم ما يستحقونه من كرامة وأمان اجتماعي.
حياة البسطاء مرآة حقيقية لواقع يتطلب التغيير، واقع يجب أن تُكتب فيه القوانين بعين الميدان لا من فوق الكراسي. فإن أردنا التقدم، فلننظر أولًا في عيون البسطاء، هناك فقط سنفهم حقيقة الشعوب، وهناك فقط سنبدأ الطريق الصحيح.