ففي كل عام وحين يعود الحادي والثلاثون من ديسمبر، تستيقظ الذاكرة لا لتبكي وحدها بل لتسأل: كيف يمكن لإنسان واحد أن يصبح منهجا؟ وأن يتحول الغياب إلى درس أخير لا ينتهي؟ ومن هنا، أكتب بامتنان موجع، وبوفاء لا يهدأ، وأقول إنها لم تعلمنا القانون وقواعده فقط، بل علمتنا كيف نبقى مستقيمين في عالم مائل.
فعندما يقترب تاريخ هذا اليوم من كل عام، لا يأتي ساكنا بل يطرق الذاكرة طرقا موجعا، ليعيدني تلميذة أمام امرأة لم تكن تشبه أحدا يوما. «راقية حميدان» هذه المرأة التي لم تكن مجرد أستاذة قانون ولا محامية لامعة فحسب، بل كانت مدرسة متكاملة في الأخلاق، وفي الشجاعة الهادئة، وفي الإيمان العميق بأن الحق لا يحتاج صراخا ليكون قويا.
إنني أتذكر جيدا صوتها الذي لا يعلو لكنه لا يهزم، فقد علمتنا دون أن تقول إن القوة ليست في ارتفاع الصوت بل في «ثبات الموقف لنصرة الحق». وعلمتنا أن المحاماة ليست مهنة فقط، بل مسؤولية ثقيلة لا يحملها إلا من قبل أن يكون منصفا قبل أن يكون ذكيا، وأن الدفاع عن الإنسان لا يحتاج إلى قسوة بل يحتاج قلبا صلبا، وعقلا نزيها، وضميرا لا يساوم.
إن هذا اليوم ليس ذكرى رحيلك فقط معلمتي، بل هو موعد سنوي مع الامتنان لك، ومع العهد الذي قطعته دون أن أنطقه بأن أسير على نهجك، وأن أبقى ثابتة كما كنت دوما.
نامي مطمئنة يا معلمتي، يا من علمتنا أن العدالة لا تطالب بالتصفيق، وأن المرأة حين تؤمن برسالتها، تصبح تاريخا صامتا يعيد تشكيل المستقبل. أما أنا - تلميذتك الحزينة والفخورة بك حيث أنا - فما زلت أمشي بخطى ثابتة وباستقامة لا ميل فيها، لأنك هناك دوما في العمق تدلين الطريق.
