المشكلة ليست فيّ طبعًا، المشكلة في الآخرين الذين لا يرون الصورة كاملة، أو هكذا أحبّ أن أصدّق كي أستمر في العيش دون حاجة لطبيب نفسي أو مرآة صادقة.
فمثلًا، عندما أنظر إلى نفسي بعيون جاري “فكري”، أرى شخصًا يفتح باب بيته كثيرًا، ويغلقه كثيرًا، دون أن يقدّم تفسيرًا علميًا لهذا النشاط المريب. الرجل مقتنع أنني أتعامل مع الـجن السفلي، أو على الأقل أستلم طرودًا لا ترى بالعين المجردة.
حاولت إقناعه ذات يوم أنني فقط أنسى مفاتيحي معلقة في الباب، لكنه اكتفى بأن هزّ رأسه وقال: “لا يا عم علي، اللي ناسي مفاتيحه مش كل يوم.”
ومنذ ذلك الحين، قررت ألا أشرح شيئًا لأحد، واترك الناس تستنتج ما تريد، فربما أبدو أخطر مما أنا عليه، وهذا يمنحني نوعًا لطيفًا من الاحترام.
أما بعيون عائلتي الكريمة، فأنا “الشيبة المثالي” الذي يستطيع فعل كل شيء، باستثناء الأشياء التي يريدها هو.
أرى نفسي في أعينهم الرجل الذي يجب أن ينجح في حياته حتى يرفع رأس نفسه وحدها، ويحل مشاكل الأقارب، ويكون حاضرًا في كل مناسبة، وبالطبع يبتسم دائمًا حتى لو كان على وشك الانهيار.
وإذا أظهرت تعبًا بسيطًا، يقولون: “يا رجال! فين الغيبة؟ أنت قوي على التعب”.
طبعًا أنا قوي، قوي على نفسي فقط وما أرحمها، أما الحياة فقد جعلتني مثل البالونة المنفوخة، شكلي كبير من الخارج لكني لا أحمل شيئًا بالداخل سوى تنهيدة طويلة ومؤجلة حتى إشعار آخر.
ثم تأتي نظرة المجتمع، وهي النظرة التي لو رأيتها في الليل لأطفأت كل الأنوار وجلست في الظلام كي لا أراها مجددًا. المجتمع ينظر إليّ باعتباري ذلك المواطن الغامض الذي يجب أن يكون مثاليًا، لا يخطئ، لا يعترض، لا يرفع صوته، ولا يتأخر في دفع فاتورته مهما كانت الخدمات “تنويرية بلا نور” أو “مائية بلا ماء”.
أرى نفسي بعيون المجتمع فأكتشف أنهم يريدونني حمار شغل، لكن بدون راتب، وبدون بدلة أنيقة، وبدون القدرة على الطيران.
يكفي فقط أن أكون “مؤدبًا” وبالع لساني، وهذه كلمة تُستخدم عندنا عادةً لدفن أي محاولة للتعبير عن الرأي.
ولا أنسى بالطبع نظرة أصدقائي الذين يرون فيّ “المستشار الروحاني” الذي يجب أن يحل مشاكلهم العاطفية والمالية والوجودية، مع أنني الفاشل الوحيد في حل مشاكله.
أحدهم جاء ذات يوم يقول: “يا أخي أنا أثق في حكمتك.”
كاد قلبي يشتغل ضحكًا. أي حكمة؟ الحكمة الوحيدة التي أملكها أنني تعلمت كيف أجيب على رسائل الواتس بعد أسبوعين دون أن أشعر بالذنب. لكن لا بأس، تركتهم يعتقدون أنني حكيم، فهذا أفضل بكثير من أن يعرفوا الحقيقة المظلمة: أنني في كل ليلة أنظر للسقف وأسأل نفسي: “وهذا كله ليش؟”
أما نظرتي لنفسي، فهذه قصة أخرى. أنا أرى نفسي بوضوح، أعرف عيوبي وزلاتي وأخطائي المؤرشفة من يوم كنت في الصف الأول. أعرف أنني أتظاهر بالقوة وأنا هشّ، وأنني أبتسم وأنا غاضب، وأنني أحاول إرضاء الجميع بينما أؤذي نفسي بصمت.
لكني، كأي إنسان محترم، أستمر في تقديم النسخة الأفضل من نفسي للعالم، ليس بدافع المثالية، بل خوفًا من السؤال المرعب: “إيش فيبك اليوم مش على بعضك؟”
هذا السؤال وحده كفيل بأن يجعلني أتصنع السعادة أسبوعًا كاملًا.
المفارقة أن كل واحد يرى فيّ نسخة مختلفة. صديقي لم يكتشفني بعد، العائلة تراني بطلًا خارقًا، المجتمع يراني موظف خدمة عامة بلا أجر، وجيراني يرون فيّ حكيم زمانه تجسّد في حيّنا بالغلط.
ولكن في النهاية، كل هذه النظرات لا تُغيّر حقيقة بسيطة: أنني أحاول فقط أن أعيش بسلام، وأحافظ على ما تبقى من طاقتي، وأتجنب الدخول في نقاشات عقيمة مع الناس الذين يظنون أنهم يعرفونني أكثر مما أعرف نفسي.
وعندما أرى نفسي بعيون الآخرين، أبتسم وأقول:
“الله يديم عليكم حسن الظن، ويبعدكم عني وقت الضرورة.”
أما الحقيقة؟
أنا مجرد إنسان بسيط يحاول أن ينجو، مثل الجميع، لكن بنسخة ساخرة قليلاً، ومُرهقة كثيرًا، ومصمّمة بعناد على أن تواصل المشي حتى لو كانت الطريق كلها مطبّات وحفر. وهذا وحده يكفيني.
