المصطلح الوطني ليس “وجهة نظر”، بل هوية سياسية وقانونية. والخلط بين المصطلحات لا يؤثر فقط على الوعي الشعبي، بل يربك الخارج، ويُنشئ سرديات متناقضة لا تخدم قضية، مهما كانت عادلة.
الاستقلال الناجز.. بين اللغة والسيادة
كثيرون يستخدمون تعبير “الاستقلال الناجز”، وكأن الاستقلال درجات. والحقيقة أن الاستقلال في القانون الدولي حالة مطلقة: إمّا دولة ذات سيادة أو غير ذلك. إضافة كلمة “ناجز” تمنح المصطلح شحنة وجدانية لكنها تفقده الدقة، وتفتح الباب للتأويلات التي لا تثبت أمام القانون ولا أمام الذاكرة التاريخية.
دحر المستعمر.. المصطلح الذي يجب أن يبقى في سياقه
مصطلح “دحر المستعمر” يحمل شرعية تاريخية واضحة، لكنه يُربك حين يُسحب إلى الحاضر لتوصيف صراعات سياسية داخلية. هنا تصبح اللغة مختبرًا خطيرًا؛ فاستدعاء مفردة مقاومة كان لها سياقها الواضح إلى خلافات اليوم يخلق تشويشًا على الفعل الأصلي، ويُدخل التاريخ في متاهات لا علاقة لها بزمانه.
الاستقلال الثاني.. المصطلح الذي يصنع مشكلته بنفسه
تعبير “الاستقلال الثاني” يحمل إيحاءات سياسية حساسة؛ فهو يلمّح إلى أن ما بعد الاستقلال الأول كان “وصاية” أو “تبعية” أو “استعمارًا مقنّعًا”. قد يكون هذا المصطلح مقبولًا في الخطاب الشعبي، لكنه ليس مناسبًا للخطاب الرسمي أو الدبلوماسي، لأنه يرسل رسائل ملتبسة للعالم حول طبيعة المرحلة السابقة.
«استعادة الدولة»: المصطلح الذي يطلب أكثر مما يقول
هذا المصطلح هو الأكثر حضورًا والأكثر التباسًا. فقولك “استعادة الدولة” يعني ضمنيًا أن دولة قائمة سابقًا فُقدت أو تعطلت أو اختُطفت، وأن المطلوب هو إعادة تشغيلها، لا تأسيس كيان جديد.
قانونيًا، هذا المصطلح يفترض ثلاثة أمور:
1. أن دولة قائمة ومعترفًا بها كانت موجودة بالفعل.
2. أن هناك انهيارًا أو شللاً أصاب هذه الدولة.
3. أن الهدف هو إعادة بناء المؤسسات والعودة إلى الاحتكار الشرعي للقوة والقرار.
لكن التعقيد لا يقف هنا. الخلل الأكبر يبدأ حين يرفع البعض شعار “استعادة الدولة” بينما يسمّي هذه الدولة المستهدفة بـ “الجنوب العربي”، مع أن الدولة التي يُفترض استعادتها كانت قانونيًا وتاريخيًا اسمها “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”.
هذا التناقض يمسّ جوهر القضية، لأنه:
يُربك المجتمع الدولي الذي يتعامل مع “الأسماء القانونية للدول” بوصفها كيانات محددة.
يعطي انطباعًا بأن الهدف ليس “الاستعادة” بل “إعلان كيان جديد”.
يخلق انفصالًا خطيرًا بين المطالب السياسية والخطاب الإعلامي.
في لغة الدبلوماسية، الاسم ليس شكلاً، إنه هوية قانونية. وتغيير الاسم يعني تغيير الكيان، وتغيير الكيان يعني مسارًا سياسيًا آخر. ولذلك لا بد من الإجابة بوضوح:
هل المشروع المطروح هو استعادة دولة قائمة؟
أم إعادة تشكيل دولة جديدة بهُوية مختلفة؟
الخلط بين الاثنين لا يخدم أي مسار، بل يعقّد المشهد ويضعف الموقف أمام الداخل والخارج.
وفي الوعي الشعبي، قد يُفهم المصطلح بأنه استعادة الأمن والنظام. أما سياسيًا، فهو يعني عودة الدولة بصفتها المالك الشرعي الوحيد للعنف المنظّم، وهذه ليست حالة تتحقق بالشعارات، بل بالمؤسسات القادرة والمركز السيادي الواضح.
وبين فوضى اللغة، وفوضى الرؤية تتوسع المصطلحات دون انضباط، وتظهر عبارات من نوع:
التحرير الشامل، الاستعادة الكبرى، التمكين التاريخي…
ولغة كهذه تخلق واقعًا افتراضيًا لا يشبه ما يجري على الأرض، وتُدخل الجمهور في حالة “تضخم لغوي” مقابل “عجز مؤسساتي”. وهنا تصبح السردية الوطنية مهددة بالتشظي، لأن كل طرف يخلق قاموسه الخاص، ويؤسس لغته الخاصة.
الدول الرصينة تملك “معجمًا وطنيًا” للمصطلحات السياسية، تلتزم به المؤسسات الرسمية والإعلامية، حتى لا تتحول اللغة إلى سلاح ضد الدولة نفسها.
فالغموض في المصطلحات قد يؤدي إلى سوء فهم دبلوماسي، أو يمنح خصوم الداخل والخارج فرصة لخلخلة الرواية الوطنية، أو يقسم الجمهور بين تعريفات لا رابط بينها.
والمناسبات الوطنية ليست لحظات رفع الأعلام فقط، بل لحظات توحيد المفهوم قبل توحيد الشعار. فالذاكرة الجمعية بحاجة إلى لغة محكمة تحفظ التاريخ ولا تُشوهه.
إن ضبط المصطلحات هو ضبط للوعي، وحماية للذاكرة، وحسن إدارة للرسائل المرسلة إلى الداخل والخارج.
فالكلمة ليست مجرد وصف؛ إنها موقف سياسي، وإعلان نوايا، وتعريف بالذات أمام العالم. ولهذا فلنسمِّ الأشياء بأسماءها.
التاريخ لا يكتبه من يصرخ أكثر،
بل من يضبط المصطلح…
ويضع الكلمة في مكانها الصحيح، بلا مبالغة ولا مواربة.
