ذلك المشهد في الشوارع يعكس صورة المسار السياسي القائم: سلامٌ يسير على حقل ألغام، يترنّح مع كل خطوة، ويخشى الانفجار مع كل يوم.
يتباهى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه أنجز اتفاق «وقف الحرب في غزة»، لكن الحقيقة تستدعي تصحيح المصطلح: ما جرى هو وقف الإبادة لا وقف الحرب.
فأهل غزة لم يخوضوا حربا متكافئة، بل تلقّوا أعتى حملات الإبادة في هذا العصر، من دون أن يكون لهم جيش أو عتاد، سوى صمودٍ يُدهش العالم ويُربك ضميره.
بعد سبعمائة يوم من القصف، لم يتبقَّ سوى الركام. تسعون في المائة من البنية التحتية في القطاع دُمّرت بالكامل، وتحوّلت المدن إلى أطلال، والاقتصاد إلى رماد.
آلة الحرب كانت تدمّر نحو 300 مبنى يوميا، حتى أصبح القطاع مدينة بلا ملامح. إجمالي الخسائر تجاوز 70 مليار دولار. لكن القيمة لا تُقاس بالأرقام حين تكون الخسارة في الإنسان ذاته.
ورغم كل هذا، يُصرّ الإعلام المهلّل للخراب على تسميتها «حرباً»، بل و«نصراً» أيضا، ويتجاهل أن 382 إنسانا ماتوا من الجوع فقط، بينهم 135 طفلًا، وأن 288 ألف أسرة تعيش الآن في العراء، تبحث عن سقف من الرحمة.
لم يقل أحد كيف يُطلب من هؤلاء أن يخرجوا ملوّحين بالفرح، وهم مدفونون تحت 55 مليون طن من الركام.
الأخطر من ذلك، هو هذا الانقسام الداخلي الذي بدأ يطل برعبه، وتشجيع مسار الثأرات بين الموجوعين في غزة، وكأنّ فجائع الإبادة المباشرة لا تكفي. فها هو سيناريو الانتقام يطلّ بين ما تبقّى من حماس وما تبقّى من المسلّحين، وصراع البقايا دوما أشدّ مرارة من غيره. الأمر بحاجة إلى حكمة أهل الدار، وإلى العودة لترتيب البيت الفلسطيني، في إطار الدولة ومنظمة التحرير، والتسليم بأن الانقسام المبكر فتح باب هذا الجحيم.
والخشية اليوم - بعد بيان وقف الحرب في غزة - من المواقف الدولية المراوغة التي تتجنّب ذكر الدولة الفلسطينية، وتتجاهل التأكيد على أكبر جهد دبلوماسي بُذل وهو مؤتمر حل الدولتين، وتعمّد عدم الإشارة إلى قضية عودة اللاجئين. وكأن الحل هو إدارة منتجع غزة لا إقامة الدولة الفلسطينية. وكأن هذه المواقف تريد فقط فك عزلة الكيان الصهيوني لا تحقيق السلام المنشود.
والحقيقة التي لا مناص منها. إن الطريق إلى السلام يمر عبر إعادة الحقوق، والاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإنهاء مخططات استمرار الانقسام الفلسطيني. فغياب ذلك، أو تغييبه، يجعل سؤال الشك مشروعا.
فكيف يُمكن للناس أن يلتقطوا أنفاسهم ويُؤمنوا بأن هناك سلاما، بينما لم تحضر فكرة الدولة الفلسطينية وحق العودة؟ بل ويسارع الكنسيت بقرار ضم الضفة وإشعال فتيل الكارثة القادمة؟ وكيف نسير مطمئنين والطريق إلى الحياة ذاته مليء بالقذائف التي لم تنفجر بعد؟
في غزة.. حتى الصمت مفخّخ، وحتى السلام.. يمشي على الرماد.