.jpeg)
غير أنه يمكنني القول إنني باعتباري عملت في الصحافة، وفي هذه الصحيفة بالذات (14 أكتوبر) التي تتشرف بحمل اسم ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة، قد عاصرت فترة ما بعد نيل الاستقلال الوطني، وكنت شاهدًا من موقعي ذاك على الكثير من أحداثه وتحولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأيضًا على الصراعات التي رافقت التجربة وأخذت في أغلبها طابعًا مسلحًا ودمويًا ألقى بظلاله على التجربة، وأكل من أبناء الثورة وقياداتها الكثير، وبالتالي من طبيعة التجربة نفسها ومصداقيتها، وأضعف إلى حد كبير من عناصر قوتها ومن منجزاتها.
لا يسمح لي هذا الحيز بالدخول في التفاصيل وهي حتمًا كثيرة ومتشعبة ومعقدة وتحتاج إلى الوقوف عندها بصراحة وشفافية، ليس لجلد الذات، أو التشفي، أو النيل من التجربة، أو تصفية حسابات، ولكن للحقيقة وللتاريخ من ناحية، ومن ناحية أخرى لدراستها والتعلم وأخذ الدروس والعِبر حتى لا نكرر نفس الأخطاء وننتهي إلى نفس المصير - النهاية. وكل هذا لا ينتقص مُطلقًا من ثورة 14 أكتوبر ولا من رمزيتها ولا من مكانتها التاريخية في نضال شعبنا العظيم.
وأظن أن هناك من هو أقدر على ذلك، وعندهم التفاصيل والحيثيات والوثائق أكثر مما لدى صحافي مثلي لم يكن يومًا قريبًا من مراكز صنع القرار، في دولة لم تتعود على الشفافية وتدفق المعلومات، وكانت دائرة صنع القرار محصورة على “النخبة السياسية الحاكمة”.
لكن في هذه المناسبة - الذكرى السنوية الثانية والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر، وهي مناسبة وطنية عظيمة لا يمكن التقليل أبدًا من أهميتها، وضرورة انبثاقها في تلك اللحظة التي سبقتها إرهاصات وتجليات ومقاومات وإخفاقات وانتفاضات وتحضيرات أدت في الأخير إلى الثورة وانتصارها الحتمي، عبر بطولات وتضحيات وشهداء وجرحى ومعتقلين، كما هو حال كل الثورات التي تناضل من أجل الحرية والاستقلال.
الفكرة ليست هنا، فقد انتصرت الثورة وحققت هدفها في إنهاء احتلال استمر نحو 129 سنة لعدن والجنوب. لكن السؤال هو: لماذا فشلت الثورة في إقامة الحكم الرشيد والدولة الديمقراطية والتطور المنشود؟! ذلك هو السؤال الجوهري الذي ينبغي أن نقف أمامه ونحن في العام الثاني والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر، حتى لا تمر المناسبة كما تمر في كل عام دون أن نتحرى ونبحث حتى لا يصبح الأمر مجرد عادة سنوية، تمر كما مرت في أعوام سابقة!!
شعبنا أمام لحظة تاريخية مفصلية، والشعوب الحية لا تستسلم للصعوبات والتحديات وكأنه قدرها المكتوب الذي لا فكاك منه، بل تستنهض عناصر ومكامن القوة فيها للتخلص من هذا الواقع المؤلم واحداث التغيير والحياة الكريمة التي تسعى إليها. ولن يكون بوسع شعبنا أن يستعيد اللحظة التي سرقت منه، والحلم الذي تحول إلى كابوس ما لم يدرس جديًا التجربة بكل سلبياتها وإيجابياتها.
قضية بهذه الأهمية تحتاج إلى أن تنهض بها جهة علمية محايدة، وأعتقد أن مراكز البحث العلمي والجامعات - وعددها ليس بالقليل - هي الأجدر أن تتصدى لهذه المهمة بكل تجرد وحيادية، بعيدًا عن الحزبية ومراكز السلطة السابقة والحالية. وهذه من مهام الجامعات ومراكز البحوث التي من شأنها أن تدرس مشاكل وقضايا المجتمع وتقدم له الحلول. وأعتقد أن السنوات التي مضت والتجارب التي مررنا بها كفيلة بإنضاج فكرنا وعقلنا لكي نصل إلى قناعة تامة جميعا بضرورة دراسة تجربتنا دراسة علمية وموضوعية، وأن الوقت قد حان لذلك حتى لا نجد أنفسنا نعيش في خوف دائم من أن تتكرر تجارب الدم والخوف التي عشناها في الماضي، وهناك من يريد فعلا من أعداء شعبنا والتجربة أن نعيش نفس الحماقات والخطايا السابقة، وألا نرتّق جروحنا النازفة التي لم يمزقها الغزاة فقط، بل بأيدي بني جلدتنا وبعض حكامنا وورثة الثورة!
أرجو أن لا تبقى ذكرى ثورة الرابع عشر من أكتوبر بعض الفرح المسموح به في مثل هذه المناسبات، بل مناسبة لمنح شعبنا العظيم الأمل بحياة حرة كريمة يستحقها بكل جدارة.