.jpeg)
ستشعرون بالحسرة - بعد أن تقرأوه - على حال مقاهينا في عدن، وفي غيرها من المدن كما شعرت. قلت لصديقي الشقاع بعد أن قرأت مقاله الرائع: مقاهي بيروت ليست كمقاهينا، تشرب الشاي في “السيسر” وتهرب إلى الشارع لا تدري إلى أين..؟ وأزيد على ذلك الآن: لا شيء يغريك في البقاء فيها أكثر من الوقت الذي يستغرقه منك احتساء فنجان الشاي، صغيرة وحارة ومليئة بالصراخ والضجيج، ومازال حالها كذلك منذ عقود لم يتغير!
يومًا ما كان في القاهرة مقهى ثقافي من نوع المقاهي في بيروت، كما يصفها صديقي الشقاع. كان يرتادها الأدباء والكتاب والشعراء والمثقفون، وتشهد مناقشات للأعمال الأدبية والثقافية لكتاب مصريين وعرب، وحتى الملوك والرؤساء والفنانون كانوا من روادها، وهو تقليد ورثه جيل ستينيات القرن العشرين الماضي في مصر. ولعل أقدمها مقهى الفيشاوي بخان الخليلي الذي يعود إلى نحو أكثر من قرنين ونصف، ومقهى ريش بطلعت حرب الذي كان نجيب محفوظ يعقد فيه جلساته وندواته الثقافية.
للأسف تغيرت الأحوال، فبدل أن كانت المقاهي في مصر مكانًا يرتاده السياسيون والمثقفون، صار روادها من فئات لا علاقة لها بالسياسة والثقافة، بل مكانًا لقضاء السهرة في لعب الطاولة والدمينو وتدخين الأركيلة، لا تستطيع الجلوس فيها لوقت طويل.
يومًا ما كانت بعض مقاهي مصر حالة ثقافية، لكن ذلك العصر ولى واختفى .. ربما هذه الحالة بقيت في بيروت وتونس والمغرب العربي. في تونس العاصمة مثلاً المقاهي الثقافية أماكن لتجمع الشباب والفنانين والمثقفين، تقام فيها ندوات شعرية وموسيقية ومسرحية ومناقشات فكرية وأدبية وأشهرها “مقهى ليبرتي”.
أما عندنا في عدن واليمن، فقد حل المقيل والقات محل دور المقهى، حيث تلاك السياسة والثقافة مع أوراق القات ولا تخرج منها بنتيجة!
وإليكم مقال صديقي محمد الشقاع (بيروت.. مدينة المقاهي الثقافية):
“بيروت مدينة لا تكتفي بالقهوة.. بل تقدّم لك معها كتابًا، قصيدة، أو لحظة موسيقى عابرة.
المقاهي هنا ليست مجرد طاولات وكراسي، بل مكتبات صغيرة، لوحات جدارية، وآلات موسيقية تنتظر من يلمسها لتنبض بالحياة.
من أجمل ما يحدث في هذه الأمكنة أن تصادف وجوهًا مألوفة من عالم الأدب والفن. في الساعات الأولى من وصولنا، التقينا الشاعر الكبير أدونيس في مطعم التاء المربوطة. وبعد أيام قليلة جمعتنا الصدفة مع الممثل السوري أيمن زيدان. لحظات كهذه لا تُشترى، بل تهديها لك المدينة حين تسير على مهل.
قالت ابنتي مبتسمة: «لو قعدنا شهر، سوف نلتقي ونتعرف على كل كتاب ومبدعي الشام!»
في شارع الحمرا، وجدتني أجلس في مقهى برزخ، حيث المكتبة تفتح ذراعيها بلغات عدة، والشعر والفلسفة يحيطان بالمكان كأنك في حضن مكتبة عتيقة. تمنيت ان بعض هذه الكتب العلمية تدرس في مدارسنا مثل الآخرين.
أما في التاء المربوطة، فالقهوة تختلط بأصوات الشعراء؛ عود يعزف، بيانو يهمس، وموسيقى تصدح… لتشعر أن الحوار هنا موسيقى أخرى.
وفي Books@Cafe وB-Hive، تتحول الطاولات إلى منصات عمل وحلم، والحوارات إلى جسور بين فكرة وأخرى، بين غريب وغريب صار صديقًا.
في شارع مونت (Monot)، وفي أحد أزقة الأشرفية، هناك مقهى ومكتبة جميلة اسمها Cafébrairie 33، لصاحبتها الكاتبة والشاعرة جمانة حداد. وجدت فيها كتبًا حديثة تحمل بصمتها الخاصة، فيما رحّبت بنا المسؤولة عن المكتبة بابتسامة وحديث وديّ، قادتنا بين الرفوف. هناك التقيت بكتب أصدقاء منهم حبيب عبد الربّ سروري، الذي تنتشر مؤلفاته في معظم مكتبات بيروت، كسفير جميل لوطن أنهكته الحروب والظلام.
بيروت تعلّمك أن الثقافة ليست في قاعات المؤتمرات ولا على رفوف المكتبات وحدها، بل في فنجان قهوة يجمعك بالآخرين… في مقهى يصبح بيتًا صغيرًا للروح.
وكما أقول دائمًا: أجمل ما في لبنان هم ناسه… بجمالهم، ولغتهم الرقيقة، ومظهرهم الأنيق، وحواراتهم الشفافة، ودعابتهم الممزوجة بالسخرية من كل شيء.
في بيروت، أو في لبنان عمومًا، تجد من كل بلد قطعة… ولكن بنسخة عربية”.