.jpeg)
صغارا كنا نغني : نحن إذا جاء المطر
المطر.. المطر.. نجري ونلعب تحت الشجر.. الشجر.. ونغسل ثوبنا.. ثوبنا، ثوبنا ليكون ثوباً معتبر... معتبر”
عندما دخل العيدروس عدن قيل إن السماء أمطرت لبناً! بدلاً من الماء.. ولهذا يغني الناس في عدن: يا سما صبي لبن.. سيدي عبدالله سافر عدن..
وعندما جاءت بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة في 2 إبريل 1967م إلى عدن آخر أيام الإنجليز، نزلت أمطار كثيرة غير مألوفة، أغرقت الطرقات، مما اضطر البعثة إلى التنقل بالهليوكبتر من مقر إقامتها في “سيفيو هوتيل” في خورمكسر إلى سجن المنصورة بالشيخ عثمان، للاطلاع على أوضاع المعتقلين السياسيين، وأطلق أهل عدن على تلك الحادثة (مطر البعثة)..!!
نزول الغيث نعمة ومدعاة للفرح وإحياء الأرض الموات في بعض البلدان والأحيان.
وفي بعض الأحيان، والبلدان الأخرى التي لا تستعد لهكذا (مطر) نقمة!
فضح المطر على عدن، بالرغم من التحذيرات التي سبقته من الارصاد الجوي، مدى هشاشة البنية التحتية للمدينة التي يفترض أنها العاصمة، وأنها تتمتع ببنية تحتية سليمة، أقله بنظام لتصريف المياه يحميها من السيول.. ما حدث كشف مدى ما تعرضت له أحياء عدن خلال العقود الأخيرة من إهمال وعملية عدوان طال بنيتها التحتية.. بناء عشوائي سد مجاري ومسارب السيول.. تكدس للقمامة في الشوارع الخلفية، أو ما يعرف في عدن بـ “الجلي”، مخلفات بناء، وتهالك شبكة المجاري والطرقات. كل هذا بدت واضحة جداً آثاره السلبية والمدمرة على عدن وأحيائها خلال المنخفض الجوي الأخير.. وقبل ذلك في هطولات سابقة، لم تكن كافية، لنتعلم منها الدرس الذي ينبغي أن نتعلمه!
المسألة لها وجهان..
وجه تتحمله الدولة، أو الحكومة، خاصة أجهزتها من إسكان وأشغال وسلطة محلية ومحافظة وبلدية وقضاء وشرطة وأجهزة رقابة ومحاسبة، على سلامة المشاريع التي تنفذ وأجهزة ضبط معنية بتطبيق القوانين.
ووجه آخر يتحمله المواطن، أو بعض سكان المدينة الجدد، الذين يزيدون من أعباء البلدية بعدم التزامهم بالقوانين النافذة، فيبنون عشوائيات في أماكن غير مسموح فيها البناء مثل مجاري السيول أو الجبال أو الشواطئ، بدون وجود مخططات وبنية تحتية من طرقات ومجارٍ وكهرباء وخطوط ماء... إلخ.. مع تغاضي الجهات المسؤولة عن ذلك. إما لاستشراء الفساد، أو غياب المحاسبة والرقابة على المشاريع، أو لضعف قبضة الدولة لمعاقبة المخالفين، سواء أصحاب السكن العشوائي أو الذين يرمون القمامة إلى الشارع، أو “الجلي”، فتتكدس هناك إلى درجة العفونة، وتسد بدورها المجاري، وتسهم في تلوث البيئة، وفي خلق مناخ خصب لتوالد الحشرات من ذباب وبعوض وقوارض تنقل الأمراض.
الوجهان كلاهما تسببا فيما وصلت إليه عدن من تدهور وسوء حال في مستوى الخدمات، كما بيّن وكشف عنه المنخفض الجوي الأخير.
عادت بي الذكرى والذاكرة إلى مدينة كانت النموذج، ومضرب المثل، في النظام والقانون، لم يكن يستطيع أحد أن يفتح نافذة في جدار بيته بدون ترخيص، حتى لا يؤذي جاره، ناهيك عن بناء جدار أو حوش أمام بيته حتى لا يكسر الطابع العام للشارع أو الحي.. إلى مدينة كان فيها أفضل الطرقات وشبكة مجارٍ ونظام تصريف مياه الأمطار..
توحشت المدينة إلى حد لا يُطاق، عن طريق أولئك المخالفين الذين فلتوا من العقاب بكل أسف بسبب استشراء الفساد وتراخي قبضة الدولة، وغضها النظر عن تلك المخالفات التي ألحقت بها أفدح الأضرار.. والنتيجة هي كما رأيناها!
ربما كان المنخفض الجوي الأخير الإنذار الأخير لنا جميعاً، لكل من يهمه أمر عدن، حكومة وسلطة محلية ومواطنين.. فهل تعلمنا الدرس هذه المرة؟ أم أننا مازلنا في غينا، حتى تأتي كارثة أكبر وأمر؟! وحينها نقول: لات ساعة مندم!!
الأمر ليس فيه كيمياء، بل تخطيط دقيق، يأخذ بعين الاعتبار كل تفصيلة في البنية التحتية التي تحتاجها مدننا على المدى البعيد.
يحتاج الأمر ما أسماه صديقي العزيز محمد الشقاع في المقارنة التي أجراها بين عدن وسانتوريني اليونانية، ونشرتها في الأسبوع الماضي في هذه الزاوية.. وأذكركم به، لعل الذكرى تفيد: “نحتاج إلى حكم عادل، ومؤسسات فاعلة، وشعور بالعدالة والأمان، والنظام والنظافة والاستقرار المدروس”.
فهل هذا كثير علينا؟ كثير على عدن؟
سؤال برسم الجميع، حكومة وسلطة محلية ومواطنين!
إن هذه المدينة تحتاج إلى عملية تنظيف جذرية، ليس من مخلفات الأمطار والسيول فقط، بل أيضا من الفاسدين والمخالفين للقوانين، ومن العشوائيات!!
كم من الألم والوقت سنحتاج حتى نستوعب؟!