
تُعد ثورة 26 سبتمبر 1962 في اليمن نموذجًا حيًا لهذا الالتباس الخلّاق بين التوقيت كمعطى، والرمزية كثقل تاريخي. فعلى الرغم من وضوح التوثيق الزمني للثورة في الكثير من المصادر، لا يزال الجدل قائمًا - ولو على استحياء - حول ما إذا كانت الثورة قد اندلعت في يوم 26 سبتمبر، أم أن لحظة تفجيرها الفعلي وقعت في فجر 27 سبتمبر. هذا النقاش، على سطحه، يبدو تقنيًا أو حتى ثانويًا، لكنه في عمقه يُعبّر عن التوتر المستمر بين الحدث والتاريخ، بين الفعل السياسي والسرد الوطني.
بحسب التوقيت المدني المعتمد عالميًا، والذي يبدأ اليوم عند منتصف الليل (00:00) وينتهي في الساعة 11:59 مساءً، فإن أولى الضربات الثورية - قصف قصر البشائر مقر إقامة الإمام البدر - وقعت عند الساعة 11:45 مساءً من يوم الأربعاء 26 سبتمبر 1962م، أي قبل انتهاء اليوم المدني بـ 15 دقيقة فقط. هذه الدقائق الخمس عشرة هي ما يحدد الفرق بين التأريخين، لكنها كانت كافية ليُبنى عليها سجال طال أمده، لا بسبب الزمن ذاته، بل بسبب ما يمثّله من ذاكرة وهوية.
في المقابل، فإن التوقيت الشرعي الإسلامي لا يعتمد على منتصف الليل، بل على غروب الشمس كبداية لليوم الجديد. ووفقًا لهذا النظام، فإن غروب شمس يوم الأربعاء كان قد وقع في صنعاء قرابة الساعة السادسة مساءً. ما يعني أن لحظة القصف التي وقعت بعد الغروب تُسجّل - شرعًا - ضمن يوم 27 سبتمبر، أي “ليلة الخميس”.
هنا تظهر مفارقة لافتة: فمن منظور التوقيت المدني، كانت الثورة في 26 سبتمبر.
ومن منظور التوقيت الشرعي، كانت في 27 سبتمبر. ومع ذلك، اعتمدت الدولة والجمهورية الوليدة تاريخ 26 سبتمبر كيوم رسمي للثورة، لا لسبب رمزي فحسب، بل لأنه يتفق تمامًا مع لحظة انطلاق الفعل الثوري عسكريًا ضمن حسابات الزمن المدني المعتمد في الوثائق والمعاهدات والقانون.
ويُضاف إلى هذا البعد الواقعي بعد رمزي وثقافي، إذ إن التأريخ بـ”26 سبتمبر” جاء في سياق الحاجة إلى تثبيت سردية وطنية جديدة تنطلق من لحظة محددة تُجسّد القطيعة مع العهد الإمامي، وتُؤسس للولادة الجمهورية. لقد أصبح هذا التاريخ بمثابة علامة على التحول، وليس مجرد إشارة زمنية لحدث عسكري. ولذلك، لم يكن من الغريب أن يتم تجاوز الاعتبارات الشرعية الزمنية - التي تُستخدم في حساب العبادات والأنساب - لصالح تقويم مدني أكثر التصاقًا بسياق الدولة الحديثة ومؤسساتها.
وإذا كان البعض ينظر إلى اختيار “26 سبتمبر” كتاريخ للثورة باعتباره تحبيذًا للرمز على حساب الدقة، فإن مراجعة الوقائع تُظهر عكس ذلك تمامًا. فالثورة اندلعت فعليًا في اليوم ذاته، وفق ما هو مُعتمد عالميًا، بل إن الفرق الذي تثيره بعض الأقلام لا يتجاوز حسابات فقهية توقيتية لا تغيّر من حقيقة أن الجمهورية اليمنية وُلدت سياسيًا وعسكريًا من رحم ذلك اليوم بالذات.
ولعل هذه الواقعة تُعيد التذكير بأن توثيق اللحظة الثورية لا يخلو من حساسية. فالزمن، في مثل هذه المحطات، لا يُحتسب بدقة الساعات فقط، بل بعمق أثره واستمراره. ولهذا، فإن 26 سبتمبر لم يبقَ مجرد تاريخ على التقويم، بل أصبح تاريخًا في الوعي والوجدان، تقاس عليه المراحل، وتُفرز به التحولات.
خاتمة
إن التاريخ الدقيق للثورات لا ينفصل عن رواية الأمة لنفسها، ولا عن الحاجة إلى خلق لحظة تُجسّد القطيعة والانبعاث معًا. وفي هذا السياق، لم يكن اعتماد 26 سبتمبر كيوم للثورة اليمنية مجرد استباق رمزي، بل كان توثيقًا متطابقًا مع الواقع الزمني للحدث، ومتسقًا مع المسار السياسي الذي أراد أن يؤسس لمرحلة جديدة. فالزمن في النهاية ليس مجرد وقتٍ مضى، بل هو معنى مستمر يُكتب وتُعاد كتابته كلما تغيّرت الحكاية، وتجددت الحاجة إلى سردها.