
يكفي أن تفتح نافذة بيتك لتشم رائحة البارود، ثم تفتح هاتفك لتجد أن الدنيا “تمام وحصل خير” في عيون بعض الأقلام المشبوهة التي قررت أن تغلق أزرار قمصانها بإحكام حتى لا ترى ما تحتها من جروح وقروح وصدى قيح.
بينما الرصاص يكتب بياناته على جدران المدينة، هناك أقلام، أو لنقل “أصابع مشبوهة” اختارت أن تكتب عن الفتنة الداخلية، عن صراعات بينية أشبه بمسلسلات رمضان الرديئة، وعن ترندات لا علاقة لها بالواقع بقدر علاقتها بمن يمول الفوضى في الجنوب.
الغريب أن هؤلاء لا يكتفون بالصمت عن الدم المسفوك هناك، بل ينشغلون لنقش عبارات الهزل على جدار المأساة الحاصلة، والطعن بأجهزة الأمن في عدن ورجاله.
بينما الناس في شوارع “تريم” يتفادون الرصاص كما يتفادون الحفر، والإعلام “المتحفّز” يتفادى الحقيقة كما نتفادى نحن الحية الرقطاء المحسوبة على الصحافة.
في حضرموت اليوم، المشهد أقرب لفيلم سيئ الإخراج، صوت إطلاق نار في الخلفية، وجمهور غاضب يحاول الصراخ، في حين بعض إعلاميينا يغضون الطرف عن تعرية القتلة القادمين من الهضبة.
لكن خلف هذا المشهد الدموي، هناك سيناريو أكبر وأخطر: لعبة ممنهجة لابتلاع حضرموت من أطرافها حتى قلبها، ليس فقط عسكرياً بل اقتصادياً. فكل رصاصة تُطلق في شوارع تريم، هي غطاء صوتي لآليات تنهب النفط من المسيلة، وشاحنات تهرّب الثروات عبر الموانئ، واتفاقات مشبوهة تُكتب في الظل لاقتسام ما تحت الأرض قبل أن يفيق أهل الأرض.
إنها خطة قديمة بوجه جديد، تبدأ بإرباك الداخل بالفتن والدم، ثم تمرير الصفقات تحت ستار “استعادة الأمن” و“ضبط الاستقرار”، في حين المستقر الوحيد هو تدفق الثروات إلى جيوب لا علاقة لها بحضرموت ولا بالجنوب.
أكاد أجزم قطعا أن هذه ليست صحافة، بل هي ورشة تمويه. وهذا ليس حياداً، بل شراكة غير معلنة في تغطية الجريمة بالـ “ترندات” التافهة، وكأننا نغطي عين الشمس بمنخل!
لكن الحقيقة عنيدة، والدم أصدق من كل المنشورات. وما يجري في تريم ليس خلافاً في الرأي ولا سوء تفاهم بين شباب الحي، إنه استفزاز دموي بالسلاح، وامتحان لقدرة الحضارم على الصبر، بينما الإعلام “الذكي” منشغل بفقه الخلافات الصغيرة وطقوس الإلهاء الكبيرة.
ربما يظن هؤلاء أنهم يربحون جولة “الترند”، لكنهم يخسرون معركة التاريخ، لأن الأجيال القادمة لن تتذكر من فاز بـ “الهاشتاق”، بل من صمت عن صوت الرصاص، ومن كان يكتب بالمداد بينما الدم كان يكتب على الإسفلت.
انتفاضة تريم هي دعوة لترتيب الصف الجنوبي في وجه المحتل القادم من الهضبة، ودعوة لتضامن جنوبي صلب لمواجهة انتهاكات قوات المنطقة العسكرية الأولى، ولفضح كل يد تمتد إلى نفط حضرموت وغازها وثرواتها، قبل أن نصحو ذات صباح فنجد أننا خسرنا الأرض والإنسان وما تحت الأرض وما فوقها.