.jpeg)
ماتت آمال وأحلام كثيرة في قلوب الناس.. في فترة من الفترات منحوا بعض الأمل في الثورة والحرية والاستقلال والوحدة ! اليوم بعد كل ماحدث، بعدكل الانتكاسات والانكسارات التي منيت بها أحلامهم، وتعرضت لها مشاريعهم الكبرى يشعرون أن كل الأشياء الجميلة التي آمنوا بها، و كافحوا في سبيلها، وقدموا التضحيات الغالية بـ (الروح والدم ) من أجلها قد سرقت منهم. وأنهم كانوا يركضون حفاة عُراة وراء غيمة جافة!
وفي خضم هذا الفراغ المميت وغياب أي أفق للحلول لمشاكل وهموم الناس التي تثقل على حياتهم وتقلق عيشهم، يتهاوى الكثيرون في عمق الصمت والاستغراق في الماضي الذي يرون فيه انه أجمل من واقعهم الراهن الذي يموتون فيه احتراقاً، دون أن يسمح لهم حتى أن يصرخوا من الألم. وعندما لايستطيعون الولوج إلى عتبة ذلك المستقبل الذي لا يعرفون عنه شيئاً لأنه بالنسبة لهم مازال مجهولاً، يديرون رؤوسهم نحو الماضي حتى وإن كان فيه الكثير مما يؤلم ويستدعي النقد والنبذ.
وبدون شعور، يتحول كل شيء إلى كابوس، و الماضي وحده إلى أيقونة سحرية يملأ الفراغ بالكثير من الهواء وأكثره مسموم ومليء بعفن الماضي، وأمراض العصبية والطائفية والمناطقية والشللية والهبل، التي تحل مكان المواطنة والدولة التي لم يعد لها وجود بعد أن اختطفت مؤسساتها وصارت في حال عجز عن استعادتها، فيجد هذا البعض ملاذه في الكهف الذي خرجت منه ذات يوم وتريد أن تعيد المجتمع إلى أتونه وتحكمه بنفس عقليته التي هي المسؤولة عما وصلنا إليه من حال البؤس. !!
باختصار نحن نعيش أزمة عميقة كتلك التي أشارت إليها قبل عدة عقود الفيلسوفة حنة أرندت، وهي أزمة لاتقتصر على ناحية واحدة بل أزمة عامة فكرية وسياسية وثقافية خاصة في ظل انهيار مجموعة القيم والتقاليد في المجتمع، وفقدان المعاني السياسية الأساسية مثل العدالة، الحرية، السلطة، الثقافة، مما ينشأ عنه بحسب حنة”هوة” زمنية بين الماضي والمستقبل،حيث لم يعد الماضي مرجعاً موثوقًا، والمستقبل غير واضح المعالم. وهذا تماماً مايحدث في مجتمعنا والعديد من المجتمعات العربية التي تعاني من أزمة فراغ، يصبح معه التفكير ضرورة وجودية، ويُطلب من الإنسان أن يُعيد بناء مفاهيمه السياسية والأخلاقية دون الاعتماد على تراث ثابت أو أيديولوجيات جاهزة.
يعد كتاب حنة أرندت الصادر سنة 1961م بعنوان” بين الماضي والمستقبل مرجعاً هاماً لفهم التحولات الفكرية والسياسية في القرن العشرين، ويبرز أهمية التفكير النقدي في مواجهة الأزمات المعاصرة.
يتكون الكتاب من ثمانية مقالات:
“التقليد والعصر الحديث”: تُحلل أرندت كيف فقدت التقاليد سلطتها في العصر الحديث، مما أدى إلى أزمة في المرجعيات الفكرية والسياسية.
“مفهوم التاريخ: القديم والحديث”: تُقارن بين النظرة الكلاسيكية للتاريخ والنظرة الحديثة، مشيرة إلى تحول التركيز من الأحداث الكبرى إلى التجارب الفردية.
“ما هي السلطة؟”: تُناقش مفهوم السلطة، مفرّقة بينها وبين القوة والعنف، وتُبرز كيف أن فقدان السلطة يؤدي إلى فراغ سياسي.
“ما هي الحرية؟”: تُعرّف الحرية بأنها القدرة على البدء بشيء جديد، وتُميزها عن التحرر من القيود.
“أزمة التعليم”: تُحلل التحديات التي تواجه التعليم في العصر الحديث، خاصة فقدان التوازن بين نقل المعرفة وتشجيع التفكير النقدي.
“أزمة الثقافة: تأثيرها الاجتماعي والسياسي”: تُناقش كيف أن فقدان الثقافة يؤدي إلى تدهور في الحياة العامة والسياسية.
“الحقيقة والسياسة”: تُسلط الضوء على العلاقة المعقدة بين الحقيقة والسياسة، وتُحذر من تسييس الحقيقة وتحويلها إلى أداة دعائية.
“غزو الفضاء وقامة الإنسان”: تُفكر أرندت في تأثير التقدم العلمي، مثل غزو الفضاء، على مكانة الإنسان وفهمه لذاته في الكون.
و الرسالة الأساسية التي تريد توصيلها حنة أرندت من خلال كتابها الذي لايزال يكتسب أهميته في ظروفنا الحالية هي: عدم الاعتماد الأعمى على التقاليد أو الأيديولوجيات، وبدلاً من ذلك تدعو إلى إعادة التفكير في المفاهيم السياسية والأخلاقية من خلال التأمل النقدي. وترى أن الإنسان الحديث يعيش في “هوة” بين الماضي والمستقبل، ويجب عليه أن يتحمل مسؤولية بناء عالمه السياسي والأخلاقي من جديد.