حين تشتدّ الأزمات، وتتعقّد المسارات، لا تنتظر الدولُ مُعجزة كي تخرج من عنق الزجاجة.. بل تصنع معجزتها من الإرادة والإدارة، والعزيمة والإصرار، ومن هذا المنطلق جاءت توجيهات وتوجهات دولة رئيس مجلس الوزراء الأخ سالم صالح بن بريك، التوجه نحو الإصلاحات الاقتصادية الشاملة ففي اجتماعه المنعقدة اخيراً بمجلس الوزراء، بتاريخ 23 نوفمبر 2025م، كانت من ضمن توجيهاته العمل على حوكمة الصناديق الإيرادية وإدارتها بنزاهة وشفافية وتقديم ترشيحات بقيادات جديدة لها خلال أسبوعين، اختيار قيادات جديدة قادرة على المواجهة لا المواربة، قرارٌ يعيد للموارد هيبتها وللوحدات الإدارية قوتها ولا يقل شأنًا عن بقية التوجيهات الخاصة بالإصلاحات الشاملة.
إنه توجيه وقرار لا يشبه سواه… قرارٌ يفتح باب الإصلاح على مصراعيه ، إيذاناً بمرحلة جديدة من الانضباط المالي والإداري والحوكمة الرشيدة.
علماً بأن الصناديق الإيرادية لم تُنشأ عبثًا، بل شُيّدت لتكون قلب التنمية المحليّة، ومحرّك المشاريع والبرامج التي تمس حياة الناس، من خدمات تلبي احتياجات الشباب والبيئة والصحة ، والتعليم إلى صيانة الطرق والمرافق العامة، وصولًا إلى دعم المشاريع الاجتماعية والتنموية التي تشكّل عصب الاستقرار المحلي.
ولكل صندوق مصادره التمويلية التي تتنوع بين الرسوم والنسب والدعم الحكومي والتمويل الخارجي… فإن أُديرت كما ينبغي أزهرت واثمرت ، وإن تُركت للفوضى ضاعت وتلاشت.
ولا يخفى ما تواجهه الصناديق والمؤسسات الايرادية من تحديات وصعوبات الا ان لكلٍ منها طُرقاً كفيلة بتجاوز تلك المعوقات والعمل على تحسين وتجويد الخدمات التي تقدمها الصناديق، وما ضاقت أرضٌ بإرادة أصحابها، وقد جاءت التوجيهات الحكومية في وقت لا يحتمل التردد ولا يسمح بالانتظار ؛ فالفُرص لا تأتي لمن يقف على الرصيف، بل تُمنح لمن يتقدّم بخطى ثابتة وكما قيل :
“إذ لم تكن إلا الأسنّة مركبًا… فما حيلة المضطر إلا ركوبها.”.
إن حوكمة الصناديق الإيرادية ليست رفاهية ولا خياراً تجميلياً ؛ بل معركة مصيرية للإصلاح الحقيقي، وخط الدفاع الأول ضد الهدر المالي والفساد المستشري ، وضمانة لصناعة الثقة بين الدولة والمجتمع. وإن تنظيم الحسابات، وضبط الإيرادات والمصروفات، وتطبيق القوانين واللوائح النافذة، سيُعيد لهذه الصناديق مكانتها كقوة تمويلية فاعلة، لا كأوعية مثقوبة تستنزف مقدرات الوطن.
ولدينا صناديق كثيرة يمكن أن تتحول إلى قلاع تنموية لو أُحسن إدارتها:
صندوق النظافة والتحسين، صندوق النشء والشباب، صندوق تشجيع الإنتاج الزراعي والسمكي، صندوق صيانة الطرق والجسور، صندوق الرعاية الاجتماعية، إضافةً إلى صندوقي الصحة وتنمية المشروعات اللذين أُقرّا مؤخراً.
ولا يكتمل طريق الإصلاح إلا بخطوات شجاعة ، أهمها:
إعادة الهيكلة وتفعيل وسائل رفع الإيرادات، تحديث الرسوم بما يواكب الواقع، إنهاء التداخل في التحصيل والتوريد، رقمنة الموارد وحوسبة التحصيل، اعتماد أنظمة محاسبية إلكترونية موحدة تشمل كافة العمليات المالية والإدارية والفنية.
إنها إجراءات ليست معقّدة بقدر ما تحتاج إلى إرادة صادقة وقيادة حازمة، عندها فقط يبدأ التحوّل الحقيقي، ويتحوّل المال العام من غنيمة للمتنفذين إلى أمانة تُصرف في مكانها الصحيح وفقاً للقوانين والتشريعات المحددة لذلك، قانون السلطة المحلية رقم (4) لسنة 2000م أوضح أن ما يجري جبايته وتحصيله مركزياً باسم التعاون والمجالس المحلية وصناديق التطوير المحلية تُعد موارد عامة مشتركة للوحدات الإدارية ، وأن نسباً محددة منها تُخصص لدعم خطط التنمية المحلية، وفق المواد (123، 124، 125). وهذه النصوص ليست حبرًا على ورق، بل التزام قانوني يجب تفعيله دون تردد، وبما ينعكس إيجابياً نحو التنمية المحلية المستدامة.
إن التوجيهات الحكومية اليوم ليست مجرد خطوة.. إنها الخطوة الأولى في طريق ألف ميل، فالواقع لا يُصلحه التمني، ولا تنقذه الشعارات، بل تُعيده إلى مساره الصحيح أيادٍ تعمل، وقيادات تتحمل، ورجال يؤمنون بأن الوطن لا يُبنى الا بمواجهة استحقاقاتها، وان المسؤولية تكليف لا تشريف، فإما أن نكون على قدر هذا التحدي وإما أن نكون عكس ذلك ، فالقيمة تكمن في التفاصيل التي لا ينتبه لها الا القليل، فالاختيار واضح… والمرحلة لا تنتظر المترددين.
