عدن أيقونة التعايش والتسامح، لفرادتها في التنوع الفكري والثقافي والسياسي، بالتركيبة السكانية لنسيجها المجتمعي، مواطنين من شتى الأعراق والمناطق والأديان، باختلافهم الفكري والثقافي والديني استطاعوا التعايش، بالحب والتسامح، بالوعي الكابح للعصبيات والتعصبات، في عدن ثقافة المجتمع تنظر للإنسان بذاته من هو، ولا تبني رأياً حوله بالسؤال غير البريء من اين هو؟، والبحث في اصله وفصله، مسقط راسه ونسله، فهذه امور لم يخترها، بل هي قدره، فهو مسؤول عن تصرفاته وشخصيته وعلاقاته مع الآخرين وما يحمله من افكار وثقافة وعلم ومهنية وابداع ومهارة، في عدن السؤال المهم هو من انت؟ وليس من اين انت؟ .
المجتمع المدني يختلف عن المجتمع القبلي والقروي، يتشكل المجتمع المدني من اندماج الفرد في البيئة التي تحيط به، البيئة التي تطهره من النعرات والتنابز بالألقاب والقبيلة والعشيرة، ليتحرر من كل تعصباته وعصبته القبلية والقروية ويرتقي لمستوى المدنية ، والمؤسف ان تتشكل مقاطعات قبلية في جغرافيا المدينة، تحاول ان تحافظ على تعصباتها وعاداتها وتقاليدها، فتنقل الاحكام القبلية والعادات العصبوية البالية لتعكر المجتمع المدني ومقوماته وما يمتاز به من تعايش وتسامح.
اليوم عدن وغيرها من المدن الحضرية في امتحان عسير و ظروف عصيبة، لها تأثيراتها على الوطن، حيث يشوه النموذج المدني، وعدن كمركز تنوير وتوعيه، مركز حضاري وثقافي وفكري إبداعي فني، قبل أن تكون مركزا تجاريا ومنطقة حرة وبيئة استثمارية تستقبل رؤوس الأموال والبيوت التجارية، بكل أعراقها وأديانها، ومن العار فيها التصنيف المناطقي والعنصري، وبث روح الكراهية والتمايز .
عندما ساد التسامح في عدن ساد التعايش، وعاش الناس بأمن وأمان بكرامة وتكافل، وكانت عدن مصدر رزق وعلم ومدرسة تعيد تربية الانسان، تطهره من النعرات والثقافة البالية، لتعيد صيغة شخصيته وترشد سلوكه، وتنمي مداركه، وتعيد بناء تلك الشخصية وفق مبدأ الانسانية والتسامح والتعايش مع من حوله، ليكون مدنياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ماضينا كله جراح وألم، أصابنا بمقتل ونحن شباب مثخنون بالطموح وتشع أفكارنا بالأمل القادم المنشود الذي بدده التخلف الجاثم علينا وحطمتنا الانتماءات الصغيرة. تقاتلنا بالقبيلة والطائفة والشللية والمذهب، فاحت روائحنا الكريهة لتسود وتهدم الروح الجمالية فينا، تبددت أحلامنا وتبخرت، مررنا بدروس قاسية، أثرت فينا إيجابا وسلبا، إيجابا اشتد عود البعض وتمسك بصلابة بقيمه ومبادئه الإنسانية، وتفتح وعيه وتوسعت أفق مداركه، وارتقى فكريا وثقافيا لمستوى حجم وطن وأمة، وسلبا اصيب الضعفاء بكل ما اصابهم، من شروخ نفسية وعقلية، جراحهم غائرة في أرواحهم، فصغرت مشاريعهم للمنطقة والقرية والعصبة، خطابهم بمفردات عنصرية في تحليلاتهم وأحلامهم وآمالهم، داسوا على القيم الإنسانية والمبادئ الوطنية، برروا كل انتهاكات الإنسان بحق أخيه الإنسان، انشغلوا بثارات الماضي ونزعاته من أحقاد وضغائن، مصابون وأصابوا المجتمع بدائهم .
كتب ابن خلدون في مقدّمته : (إذا رأيت الناس تكثر الكلام المضحك وقت الكوارث فاعلم أن الفقر قد اقبع عليهم وهم قوم بهم غفلة واستعباد ومهانة كمن يساق للموت وهو مخمور )، وإصابة العقل لها تبعات خطيرة على السلوك والفكر والتعامل مع الآخر، من نفور واشمئزاز للشركاء، يؤدي لسلوك غير سوي ومظاهر عدم المساواة، وللتعافي يحتاج المريض لمعالجة الأوهام العقلية التي أفرزت مفاهيم زائفة، على مر السنين، من الصراعات والحروب والتراكمات والثأرات، ليستعيد المريض إنسانيته أولاً ثم ليستقيم عقله وتفكيره ويتعافى من أوهامه .
ألسنا امة سواسية، شركاء في الأرض والمصير، اليوم صار العالم قرية كونية، خير لنا أن نبحث عن لغة مشتركة توحدنا، لنتوافق ونتقارب، لا تفرقنا غير الأنا والأنانية وجشعنا وأطماعنا، إذا تجاوزناها تجاوزنا أمراضنا، فبالعدل تستقيم النفوس ويعتدل ميزان العلاقات .
إن الاعتراف بهذه الحقيقة هو الترياق الأمثل لمرضى المناطقية والطائفية والعنصرية وعدم احترام الآخر ولسائر مظاهر التفرقة، نستعيد إنسانيتنا كطوق نجاة، وبساط سينقلنا إلى وضع سوي متسامح مبني على تعدد الثقافات والأفكار .. مجتمع عادل خالٍ من التعصب والعنصرية، مجتمع حضاري .
حينها يمكن الحديث وبثقة عن الدولة الضامنة للمواطنة، يمكن التوافق والاتفاق على وطن يستوعبنا، وشراكة حقيقية في الحياة والتعايش بسلام وحب وتسامح، مهما كان شكل الدولة «اتحادية أو دولتين»، ليس مهما لأنها حدود وهمية نحن نصنعها على الخريطة، ما يهم جوهر الدولة الضامنة للمواطنة والحقوق والواجبات، لنرتقي ثقافيا وفكريا وروحيا، لنتفوق سياسيا ونواكب العصر والعالم ونلحق بالأمم التي سبقتنا بقرون .