في عالم يتزايد فيه اعتماد الأفراد على مصادر رقمية متشظّية لتشكيل آرائهم السياسية والاجتماعية، تُستعاد أسطورة “كهف أفلاطون” بوصفها عدسة فكرية حادة لفهم كيفية تَشكُّل الإدراك الجماعي، وكيف يمكن للسلطة أن تَصنع وعياً زائفاً دون الحاجة إلى القمع المباشر. فالكهف في هذا العصر لم يعد مجرد استعارة فلسفية، بل صار واقعاً معيشاً نراه يتجسد في شاشاتنا، وخلاصات تغذيتنا الإخبارية، وتحزّباتنا النفسية والفكرية داخل غرف الصدى الإعلامية.
من جدار الكهف إلى الجدار الزجاجي للهاتف الذكي
في أسطورته الشهيرة، تخيّل أفلاطون مجموعة من الأشخاص وُلدوا داخل كهف مظلم، مقيّدين بالسلاسل، لا يرون من العالم إلا ظلالاً تنعكس على جدار أمامهم، ناتجة عن نار موقدة خلفهم تمرّ أمامها أجسام حقيقية. ومع مرور الزمن، تصبح هذه الظلال هي “الحقيقة” الوحيدة التي يعرفونها، ويتعاملون معها كواقع مطلق. أما الحقيقة نفسها—الأجسام والنار والعالم الخارجي—فهي غائبة عن وعيهم، بل ومرفوضة إذا تم عرضها عليهم فجأة.
واليوم، يقف المواطن الحديث أمام جدار رقمي جديد: شاشة هاتفه المحمول أو تلفازه أو حسابه على منصات التواصل الاجتماعي. يُعرض عليه سيلٌ متدفق من “الظلال المعاصرة”: مقاطع مجتزأة، عناوين مضللة، صور مثيرة أُخرجت من سياقها، وتعليقات مصممة لتحفيز الانفعال لا الفهم. إنها ليست أكاذيب بالضرورة، لكنها تمثل نسخة مشوهة ومبَسّطة من الواقع، تُبقي المتلقي حبيس كهف من الإدراك الانتقائي والمُوجه.
صناعة الظل: كيف تُصاغ الحقيقة في الإعلام؟
تكمن خطورة هذا الواقع في قدرة وسائل الإعلام والمنصات الرقمية على بناء “واقع افتراضي” يخدم أجندات بعينها. إذ يتم توجيه المتلقي عبر تقنيات خوارزمية ذكية لتكرار المحتوى الذي يوافق ميوله المسبقة، مما يعمّق من تحزّبه الداخلي، ويعزله تدريجياً عن أي سردية بديلة. وهكذا، يتحول الإعلام من وسيلة نقل للمعرفة إلى أداة لصناعة الواقع وفقاً لرؤية من يتحكم بالمحتوى.
فـ”الظل” اليوم قد يكون:
- خبرًا عاجلًا صيغ ليخدم خطابًا سياسيًا معيّنًا.
- تعليقًا ساخرًا يصرف الانتباه عن جوهر المشكلة.
- تغطية إعلامية انتقائية تُسكت صوتًا وتُضخّم آخر.
وحين تغيب المساءلة، ويُستبدل النقاش الحر بالاستقطاب العاطفي، يصبح المشاهد أو القارئ حبيسًا لواقع مختزل لا يسمح له برؤية الصورة الكاملة، أو على الأقل لا يدفعه للسؤال عنها.
الخروج من الكهف: المعرفة كتحرر
في الأسطورة، ينجح أحد السجناء في التحرر من قيوده ويخرج من الكهف ليكتشف العالم الحقيقي. ورغم الصدمة التي يُصاب بها في البداية، إلا أنه يعتاد تدريجيًا على نور الحقيقة، ويدرك كم كانت الظلال زائفة. وحين يعود ليحكي للآخرين عما رآه، يسخرون منه، بل ويعتبرونه خطرًا على استقرارهم المعرفي.
هذا النموذج يتكرّر في عالمنا المعاصر. فالأشخاص الذين يُحاولون مساءلة الروايات السائدة، أو تقديم سرديات نقدية بديلة، يُقابلون غالبًا بالرفض أو التشكيك أو الاتهام بنشر “الأخبار الكاذبة” أو التآمر. يحدث ذلك مع الصحفيين الاستقصائيين، والمفكرين المستقلين، وحتى مع بعض الأكاديميين والناشطين.
الخروج من الكهف المعاصر لا يتم بالصدفة، بل يتطلب مجهودًا معرفيًا: قراءة نقدية، تنوعًا في المصادر، إدراكًا لسياقات الأخبار، ورفضًا للوقوع في فخ العناوين الجاهزة والشعارات المريحة.
الشمس.. والحقيقة المؤلمة
في فلسفة أفلاطون، ترمز الشمس إلى “فكرة الخير” أو الحقيقة القصوى التي تُنير كل شيء. وفي واقعنا اليوم، تمثل الحقيقة غالبًا مجموعة من الوقائع المعقدة والمتشابكة التي قد لا تُرضي أهواءنا السياسية أو أيديولوجياتنا الشخصية. الحقيقة ليست سهلة الهضم، وغالبًا ما تكون مُربِكة، ومليئة بالتفاصيل المتناقضة.
لكن إدراكها ضرورة، ليس فقط لحماية الفرد من التلاعب، بل لحماية النظام الديمقراطي ذاته، الذي يعتمد على مواطنين واعين قادرين على التمييز بين التمثيل والواقع.
خاتمة: نحو مسؤولية معرفية جماعية
أسطورة كهف أفلاطون ليست مجرد حكاية فلسفية منسية، بل هي مرآة حية لواقع نعيشه يوميًا في ظل إعلام يسعى إلى تشكيل وعينا أكثر مما يسعى إلى تنويرنا. وإذا كانت الحقيقة مؤلمة، فإن الجهل بها أكثر تدميرًا.
في عصر تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقة والتأويل، وبين الصحافة والدعاية، تبرز الحاجة إلى يقظة معرفية جماعية، وإلى مشروع تربوي وثقافي يعيد الاعتبار للنقد، ويُحرر العقول من أغلال الكهف، مهما تغيّر شكله أو تطورت أدواته.