قصائد الشاعر محمد الجماعي نموذجاً.

صالح حمود
مقدمة:
يحتل الشعر الشعبي مكانة مهمة بوصفه شكلاً من أشكال التعبير الجماعي في المجتمعات العربية. وإذا كان الشعر الفصيح هو صوت الأمة، فإن الشعر الشعبي يمثل ديوان العرب العاكس لهموم المجتمعات العربية متعددة اللهجات، التي تشكل خصوصيات هوياتها الثقافية وقواسم عيشها المشترك في أكثر من مجال وسياق، والمعبِّر عن غنى هذا التنوع في المؤتلف الكلي.
ولا يقل الشعر الشعبي مكانة عن الفصيح، بما يمثله كشكل من أشكال التعبير الجماعي للهجات متعددة، تمثل نسيجاً اجتماعياً متنوعاً ومتداخلاً، تئتلف سماته في أغلب السياقات وتختلف باختلاف اللهجات ودرجة تداخلها مع اللغات الأخرى، وعمق اختزانها للغة العربية الفصيحة التي تشكل معجم معظم اللهجات في بلدان كثيرة منها اليمن.
والشِّعر الشعبي، بوصفه شكلاً من أشكال التعبير الجَماعي، هو ليس مجرد إبداع جمالي، بل هو مُمارسة ثقافية تتداخل فيها السياقات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية لتشكيل رؤية العالم كما يراها الفرد العادي في مُحيطه. يتجاوز دور الشِّعر الشعبي كونه انعكاساً سلبياً للواقع، ليكون أداة فاعلة في صياغة الوعي الجَماعي، وتعزيز التماسك الاجتماعي، ونقد البُنى القائمة.
1- الشعر الشعبي كسجل للذاكرة الجمعية:
تتفاوت الجهود العلمية النقدية في دراسة الشعر الشعبي، ويعتقد الباحثون أن الشعر الشعبي -شأنه شأن الأدب الشعبي بمعناه العريض- مصاب بالإهمال النقدي، سواء في مجال التدوين أو منحه القدر الذي يستحقه من الدراسة، ليس من منظور أدبي فقط لكن في إطار أشمل. فهو وعي الذاكرة الحية والناطق بتفاعلات حاضرها، وأرشيف عام لتاريخها. وقد بات مع التطور الذي شهدته وسائل التواصل الاجتماعي له شأنٌ يتجاوز المحلي والوطني، وإذا لم يصل إلى درجة الشعر الفصيح في مكانته كصوت الأمة، إلا أنه استطاع أن يحشد لقضاياها الرأي الأوسع، وتجاوز بتأثيره صوت النخبة في أكثر من مشهد وطني وعربي.
ناهيك عن تفرده في تمثيل مواقف المجتمعات من الأحداث السائدة، وتسجيل نبضها والمشاركة فيها. فالشاعر الشعبي هو موقف ملتزم بقضايا أمته الكبرى، تماماً كما هو عاكسٌ لهموم المجتمعات، ومعبِّرٌ عن مشاعرها تجاه ما حولها من أحداث وما تواجهه من تحديات.
2- الوظيفة التاريخية:
في وظيفته التاريخية، يقدم الشعر الشعبي بديلاً للسرد التاريخي الفوقي، ويوثق الأحداث والتحولات من منظور أعمق وأشمل، يبدأ من أسفل بنى المجتمعات إلى أعلاها، في خط عكسي مغاير للسرديات التاريخية الرسمية -خاصة فيما يتعلق بالسياسي منها- والتي تكاد تكون حصرية حول الأفراد والنخب السياسية والشخصيات البارزة.
في وظيفته التاريخية هذه، لا يجسد الشعر نبض الحياة اليومية كصور شعرية حية فحسب، بل ويعيش الأزمات والأحداث بتفاصيلها، وينقل مؤثراتها وآثارها، كما يعيشها المجتمع ككل.
3- النقد الاجتماعي والمقاومة الرمزية:
نظراً لسهولة تداوله وقوة تأثيره، يعد الشعر الشعبي منبراً حيوياً للتعبير عن الآراء، كما أنه يشكل وسيلة مقاومة للخطاب السائد، ويتخذ من فضاءه الاجتماعي الواسع بديلاً أكثر رحابة وتأثيراً من القنوات الرسمية التي قد لا تسمح بحضور بعض آرائه. فينطلق من هذا الفضاء معبِّراً عن آرائه الساخرة والناقدة لكل سلوك غير قويم تمارسه سلطات أو جماعات أو قوى مؤثرة.
والشاهد أن أكثر شعراء الشعر الشعبي يوظفون ملكاتهم الشعرية لمقاومة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والانحراف الأخلاقي والتفاوت الطبقي. وتشكل رمزية هذه المقاومة وحدها إضافة نوعية للشعر الشعبي والشعر بشكل عام. وهي تمنح المجتمع مجالاً لتفريغ الاحتقان ومواصلة طرح الأسئلة حول البنى القائمة، مما يجعله وسيلة للتغيير البطيء.
4- التماسك الاجتماعي:
يوظِّف الشاعر الشعبي اللهجات المحلية آليةً لتعزيز قيم التماسك الاجتماعي، مستخدماً هذه الآلية الفعالة للتذكير بالهوية الجمعيّة، مستدعياً كل ما يعزز الانتماء والوحدة، ونابذاً الفرقة، ورافضاً العادات السيئة الدخيلة. ونجد ذلك في مناسبات اجتماعية عدَّة، كالأعراس والأعياد. وتُعدُّ الأناشيد الجماعية طقوساً تُعيد إنتاج قيم التضامن والانتماء. كما أن القصائد التي تمجد تاريخ القبيلة وعاداتها الكريمة، تعزز الشعور بالفخر الجماعي، وتُجدِّد الروابط الاجتماعية في مواجهة عوامل التفتيت الحديثة، مُساهمةً في رفع شأن عوامل البناء الوطني الأخرى ضمن الإطار المجتمعي الأوسع.
5- الشعر الشعبي وعصر الرقمنة:
أسهم العصر الرقمي في انتشار الشعر الشعبي، ولم يوسع دائرة تأثيره الاجتماعي فحسب، بل وجد فيه فضاءً أوسعَ أسرعَ من وتيرة وصوله وتأثيره. ونشهد في العقد الأخير كيف تحولت منصات التواصل الاجتماعي وقنوات يوتيوب إلى منابر جديدة لتداول الشعر الشعبي وساحات للتباري والتنافس بين الشعراء.
كما أن الميزات التي تقدمها هذه الوسائل قد أسهمت في إعادة إنتاجه وتداوله، والتأثير فيه مباشرةً من قبل المتلقي. وفتحت هذه الوسائل المجالَ واسعاً لأي فرد للمشاركة، مما وسع دائرة الحوار الاجتماعي والنقاش الدائر حول تلك القصائد وأهدافها. وأضاف ذلك للشعر الشعبي عوامل جديدة تعزز من دوره كفاعل اجتماعي، ليس في تشكيل الرأي العام المحلي فحسب، بل وفي مواكبة القضايا المعاصرة في أكثر من سياق.
شعر الفقيد الجماعي نموذجاً:
............
تمثل قصائد وزوامل الشاعر الفقيد محمد سعيد الجماعي في بعدها الاجتماعي شكلاً ناضجاً، تعكس قيم الشاعر الإنسانية والوطنية وتميل في كثير من النصوص إلى إظهار قناعات فكرية يعبر عنها ببساطة الشعر الشعبي ويربط بين الهم الاجتماعي والشعر كمسار واحد للبناء القيمي الكلي.
ولعله من المفيد الإشارة هنا إلى أننا قدمنا قراءة عامة للكثير من نصوصه نشرت في كتاب أعد لتأبين الفقيد، ويعاد نشرها ضمن هذا الكتاب الخاص الذي يشمل أيضاً نصوص الفقيد في باب خاص وقراءة نص لم يتم الكتابة عنه سابقاً (هلو حجاج) ضمن ملف البعد الاجتماعي في شعره مع نص (قال الجماعي) كنموذجين.
أولاً: البعد الاجتماعي في نص (أبو علي قال) للشاعر الجماعي:
كُتِبَ النص (1984).
يتقدم مطلع النص الشعبي (أبو علي قال) بالحنين والاغتراب معاً، حيث تغلب على الشاعر مشاعر الحيرة والسهر والإحساس بالضيق. كل ذلك يكثف حالة واضحة من الاغتراب في المكان الكبير، والزمن الأجوف الذي لا يحمل للنقاء مكاناً يحسه صاحب الشعر المرهف:
أبو علي قال عيني ساهرة
شغلت قلبي على تسعة نظام
سمعت (صوت العرب) في القاهرة
وكل الأخبار سمعناها تمام
والآن يا ذا الطيور الطايرة
شي عندكن لي سعة بين الغمام
خلاص قلبي تكدر خاطرة
من الزمن ليش يا دنيا حرام
ارتبط في هذا النص لدى الشاعر الهم الكبير العربي والوطني والاجتماعي والإنساني، في سياق لا يمكن فصله عن الآخر. ولعل ذكره لـ (صوت العرب) من القاهرة لم يكن سياسياً فحسب، بل قومياً ووطنياً واجتماعياً. ويشير هنا إلى أن صراعات تلك الفترة الدولية ألقت بظلالها على العالم والعرب بشكل خاص، وهو ما ينعكس على كل الجوانب الشعورية، كالتفكك والتمزق وصور الوحدة التي تسكن وعيه وفكره، وما تسببه الصراعات على مستوى المكان والزمان.
لما تشوفي العرب متناحرة
حظ اليمن بالنقط متناثرة
(استعارة جميلة للتمزق الكلي والجزئي).
أبو علي في النص يسكنه الألم، وتُرسم صور الشاعر وترتفع وتيرة صوت القيم الاجتماعية في مخيلته وذهنيته ووعيه، لتصد المؤثرات المؤلمة التي سادت حينها. فالأصيل الجماعي بشهامته وكرمه وصدقه ونخوته هو حامل الشعور الجمعي للقبيلة والمنطقة، ولسان حال نبلها الجمعي. نراه يكثف ذلك بعبارات:
أصله جماعي قبيلة جاسرة
هوه يكرمك بالسخا والاحترام
كما نراه محذراً من ذوي النفوس الدنيئة المنافقة:
واحذر من أهل النفوس الفاجرة
(يضحك أمامك بضحكة ساخرة)
وضحكته بعدها دك العظام
تلك النفوس التي من شيمها الغدر... وهي بالطبع تعيش في كل المجتمعات، وعلى أصحاب الشيم والقيم الحذر منها لمحاربتها.
أبو علي قال: بساطة الإنسان المحب لمن حوله الذي يرفض المظاهر، ويتجلى هنا البعد الاجتماعي برمزية الشاب الذي يرى في محبة من حوله هو رغد الحياة:
لا ريد تكسي ولا أشتي باخرة
قلبي ما مولع بصالون فاخرة ولا بفلة بتلبيسة رخام
ثانياً: البعد السياسي:
1- النقد اللاذع للنظام الحاكم (عام 1984): النص هو وثيقة احتجاجية صريحة ومباشرة لنظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح، الذي حكم اليمن الشمالي آنذاك. والشاعر يصف قلبه بأنه (شُغّل) عليه، أي أن النظام استولى على الوطن بقوة دون رضا.
2- وسائل الإعلام كمنبع للأخبار والوعي: الإشارة إلى "صوت العرب من القاهرة تظهر دور الإعلام في تشكيل الرأي العام وكونه مصدراً للحقيقة في ظل أنظمة مغلقة:
(سمعت صوت العرب في القاهرة وكل الأخبار سمعناها تمام)
3- الاستعارة والرمزية السياسية:
• (الطير الطائر): ترمز للحرية والمعلومة التي لا يمكن للنظام حجبها.
• "باطل الأمن): سخرية لاذعة من أجهزة الأمن التي تسبب الخوف بدلاً من الطمأنينة.
• (الجن): ترمز للمسؤولين والموالين للنظام، الذين توصف طبيعتهم بالفساد:
طبيعة الجن فيهم فاترة عشوة ورشوة ظاهر بالتمام
4- الدعوة للوحدة الوطنية: هذا هو الحل السياسي الجوهري الذي يطرحه النص. الوحدة ليست شعاراً، بل هي ضرورة وجودية لإنقاذ اليمن من التمزق. هذه الوحدة التي يراها الشاعر في مخيلته القيمية ينبغي أن تكون بديلاً للاستبداد وليس لتكريس استبداد إلغائي.
أبو علي (النص) بوضوح يستخدم النقد التاريخي بشقيه؛ فهو لا يكتفي بنقد التراث الاستعماري للعجوزة (بريطانيا) إشارة للنظام القديم بصفاته البالية، بل يهاجم أيضاً نظام الإمامة السابق معتبراً أن كليهما مصدر للأحقاد والتقسيم والاستبداد، ويذهب أبعد من ذلك بتصوير الفاسدين القائمين على السلطات حينها من أحفاد الإمام سلوكاً.
البعد الاجتماعي في نص (هلو حجاج):
أولاً: النص:
معك شمسان نشيح كلم صباحه
جماعي بلغك قد بات مرتاح
مع اصحابي سلا ايضا وراحه
مع الضيف الذي قد حاز وجتاح
وسامات الشرف في كل ساحه
ضماد ادو رفد ايضا وطراح
تشرف بو نبيل زاد انشراحه
عيال العم اتو تاجر وفلاح
كمن راس الا وقت النطاحه
وجنب المغترب دكتور جراح
دواء للمفلحي بلسم جراحه
وامسا شعرهم كسيل سفاح
وخلا الارض لا تسفح سفاحه
غرق في بحرهم ذي كان سباح
معا الاموج ماعشي سباحه
لان العصفه تبداء بلرياح
ومن طرف نطل من راس ضاحه
وقلتو مرحبا ياروح الاروح
ويهنا المفلحي حقق نجاحه
ومرحب ما لمع برقه وما لاح
وفوق الراس بطرحهم طراحه
وطابور الزفاف صالون وشباح
ولا قد له مثيل هاذه صراحه
ودقينا برع ايضا وصفاح
زد اسال ذي راء الجنبيه لاحه
وصل الله على المختار ياصاح
عددما العيل قد حنه وناحه
في مناسبة نزول أهل حجاج إلى مريس في عرس ابن عمهم..
ثانياً: البعد الاجتماعي للنص:
يَبرُزُ البُعد الاجتماعي في النص الشعري (هلو حجاج) من خلال تجسيده لواقع المجتمعات القبلية في اليمن، حيثُ يَظهَرُ جلياً في العناصر الآتية:
أولاً: إكرام الضيف وإجلال مُقامه
يبدو الشاعر في ذروةِ نشوته الشعرية وفرحه بضيوفه، حيثُ يتجلى الترحيب الحار في استهلال النص بالضيوف القادمين من منطقة حجاج، فيُشبِّههم بأعلامٍ ترمز إلى الجبال الشامخة، مُبتدئاً نصه:
هلو حجاج، نقم، عيبان
معك شمسان نشيح كلم صباحه
جماعي بلغك قد بات مرتاح
مع أصحابي سلا أيضًا وراحه
وتمثّل هذه الأبيات ذروةَ الاحتفال بالضيوف من أهالي حجاج الذين قدِموا للمشاركة في زواج أحد أبناء عمهم. وتجدر الإشارة إلى أن حجاج منطقة جبلية تقع في مديرية جبن، وتربط أهاليَها ومريس وشائج قَرابة ونَسَب. وتَبدو فرحةُ الشاعر عامرةً في ندائه (هلو حجاج)، مع ذكر (نقم) - وهو جبل في صنعاء - ثم جبل عيبان، ثم صرواح، جاعلاً مقامَ الضيوف بمكانة تلك الجبال بما تُمثِّله من هيبةٍ وعظمة. كما يُؤكِّد في ترحيبه أن جبل شمسان وجبل نشيح - الواقع في قرية مشرعة في مريس - يُرَحِّبان بهذه الوفود، وبكل تلقائية يُبلِّغ الشاعرُ ضيوفَه أنه في ذروة السعادة لمشاركتهم أفراحهم.
ثانياً: تجسيد قيم الكرم والعطاء
يَمضي الشاعرُ مادحاً الضيوف الذين اجتازوا مراتبَ الشرف في مختلف الساحات، وما قَدَّموه من (رِفَد) وتمثِّل الرَّفْد سمةً من سمات الكرم الأصيل التي تُقَدَّم كهدايا لأصحاب العرس، وتشمل أيضاً (الطَّرَح) - أي دعم العريس بالأموال - إضافة إلى هدايا عينية أخرى كالأغنام والثيران التي تُذبَح لتُقَدَّم في موائد الضيوف.
ثالثاً: تمثيل النسيج الاجتماعي
يُصوِّر الشاعر فرحة (أبو نبيل) - والد العريس على ما يبدو - بما قَدَّمه أبناءُ عمه من كرمٍ وعطاءٍ ومشاركة في فرحة عرس ابنه، وتَتجلَّى هيبةُ قدومهم في كونهم جاؤوا من كل أطياف أهل حجاج: تجاراً ومزارعين وأطباء ومغتربين:
تشرف بو نبيل زاد انشراحه
عيال العم أتو تجار وفلاح
كمن راس لا وقت النطاحة
وجنب المغترب دكتور جراح
دواء للمفلحي بلسم جرحه....
رابعاً: توثيق العادات والتقاليد
يَمضي الشاعر في نصه لتصوير عادة اجتماعية مهمة من سمات الفرح، حيث يُصبح الشعر سيد الحديث والغناء، مُوضحاً كيف أن شعر الضيوف - من قوة وبلاغة شعرائهم - أصبح كالسيل، مما جعل المنافسة في مجال الشعر صعبة، مادحاً في ذلك براعة الشعراء الضيوف.
ويواصل النص تصوير العادات بلغة ترحيبية تملؤها السعادة، حيث استمروا في فرحهم بالرقص الشعبي - كرقصتي البرع والصفاح - وأشاد الشاعر بموكب الزفاف المكون من مجموعة سيارات حديثة (صوالين وشباح) لم يرَ مثيلاً لها، مختتماً نصه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي سمة اعتاد الشعراء الشعبيون ختم قصائدهم بها.
خامساً: الدلالات الاجتماعية والثقافية
يُمثِّل النص لوحةً شعرية وبياناً اجتماعياً ثقافياً، يمكن من خلاله استشفاف البعد الاجتماعي بوضوح من خلال:
• الترحيب بالضيف وإجلال مقامه: ويتجلى في الفرحة التي غمرت الشاعر في استهلال النص، ومنح الضيوف مكانة الجبال المشهورة التي ترمز إلى الهيبة والمكانة الرفيعة.
• قيم الكرم والشجاعة: وتتجلّى في إكرام الضيف والهدايا الكبيرة التي قُدِّمت، من (رِفَد)و(ضَمائد) وغيرها.
• العادات المجتمعية الأصيلة: حيث يعكس النص عادات الرقص بأنواعه (كالبَرع والصفاح)، والسجال الشعري الذي استمر طوال ليلة الفرح، بالإضافة إلى تصوير عادات الزفاف من خلال إخراج العروس في موكب كبير متنوع السيارات..
الخاتمة
يظل الشعر الشعبي، بخصائصه الفريدة ولسانه المباشر، مرآةً صادقةً للوجدان الجمعي ووعاءً حافظاً لمكنونات المجتمع وهمومه. فهو ليس مجرد إبداع جمالي، بل هو نسيج اجتماعي حي ينسج خيوط الهوية، ويوثق الذاكرة، ويصوغ الوعي، ويقاوم التفتيت. من خلال أدواره المتعددة - كحامل للذاكرة الجمعية، وأداة للنقد الاجتماعي، وعامل للتماسك، ووسيلة للمقاومة الرمزية - يثبت الشعر الشعبي أنه فاعل أساسي في الحقل الثقافي والاجتماعي، وليس مجرد انعكاس سلبي للواقع.
وتأتي قصائد الشاعر الراحل محمد الجماعي لتشكل نموذجاً مضيئاً على هذه الحقيقة. ففي نص (أبو علي قال)، لم يكن الشاعر مجرد مراقب، بل كان صوتاً ناقداً وواعياً، مزج بين الهم الوطني والقيمي والاجتماعي في بوتقة واحدة، معبراً عن اغتراب الإنسان وألمه في زمن التمزق. أما في نص (هلو حجاج)، فقد تجلى البعد الاجتماعي في أبهى صوره، كوثيقة حية ترسم ملامح الكرم والتراحم والنسيج الاجتماعي المتين، مؤكدةً أن الشعر الشعبي هو السجل الأكثر عفوية وأصالة لعادات المجتمع وقيمه وتقاليده.
وتؤكد هذه النماذج وغيرها من إبداعات الجماعي أن الشعر الشعبي، عندما يتقاطع مع موهبة أصيل وفكر عميق، يرقى إلى أن يكون مشروعا ثقافيا واجتماعيا متكاملا، يؤرخ لقيم المجتمع ويجسدها في تشكيل وجدانه، ونقلها وحفظها في الذاكرة، للأجيال.
