في ربوع الجنوب، حيث تهب نسمات البحر من عدن إلى سواحل حضرموت والغيضة وتمتد الجبال من يافع حتى شبوة، تتنفس الأرض حرية لم تكتمل، وتئن من أوجاع لم تهدأ. فالتحرر من قبضة الحرب لا يعني بالضرورة التحرر من الأزمات، بل ربما يكون بداية فصل آخر من التحديات الحياتية التي يواجهها الناس يومًا بعد يوم.
الناس في هذه المحافظات لا يملكون ترف الانتظار. فالزمن يمضي، والعيش يزداد صعوبة. الرواتب لا تكفي، وإن وصلت فهي متأخرة، والأسواق تزداد التهابًا بأسعارها مع كل صباح. المواطن البسيط، ذلك الذي كان يحلم بوطن آمن وعيش كريم، وجد نفسه أمام واقع تتنازعه الحاجة والخذلان.
في كل حي وقرية ومدينة، ترى وجوها أنهكها السعي خلف لقمة العيش. باعة متجولون، عاملون بالأجر اليومي في كل موقع نساء يسندن أسرهن وسط غياب الوظائف وفرص العمل. الكهرباء تقطع كأنها ترف، والمياه لا تصل إلا بشق الأنفس، والخدمات الصحية تتآكل، بينما المدارس تعاني من نقص الكادر والكتاب والمقعد.
ووسط هذا الزحام من المعاناة، يظل الناس متمسكين بخيوط الأمل، رغم أن الحبال تبدو واهية. يتقنون الصبر، لا لأنهم اختاروه، بل لأنه الفرض الوحيد المتاح أمامهم. في وطني، المواطن لا يطالب بالمستحيل، فقط يريد حياة ممكنة، فيها ماء وكهرباء ودواء، وتعليم لأولاده، دون أن يُضطر لبيع ما يملك أو يستجدي ما لا يُمنح.
أكبر ما يؤلم في المشهد هو غياب الاستجابة الجادة من الجهات المعنية. مشاريع متعثرة، ميزانيات تهدر، وخطابات لا تسمن ولا تغني من جوع. حتى المنظمات الدولية، ورغم حضورها على الورق تبدو حركتها محدودة في عمق المعاناة. المواطن لا يريد شعارات، بل يريد أثرًا على الأرض، يريد أن يرى أن التحرير جلب له حقّه في الحياة، لا فقط صورًا في نشرات الأخبار.
الوطن اليوم لا يحتاج فقط إلى الإغاثة، بل إلى تمكين الإنسان، وبناء ثقافة المطالبة بالحقوق بشكل حضاري، وخلق وعي جماعي بأن الصمت لا يغيّر واقعًا، وأن التنمية لا تهبط من السماء، بل تنتزع بجهود القيادات السياسية والمحلية.
الحياة في هذه الأرض تشبه السير على حافة هاوية، تحتاج إلى توازن دقيق بين الأمل والعمل، بين الحلم والواقع. ومع كل الصعوبات، لا تزال هناك فسحات للضوء، تصنعها عزائم الناس وكرامتهم، ومتى ما لامست هذه العزائم آذانًا مسؤولة وضميرا يقظا، فإن الوطن لا بد أن ينهض، لا مجرد شعار، بل واقعا يشعر به الناس في بيوتهم، وفي يومهم، وفي أحلام أطفالهم.