إلى وقت قريب كان المحللون السياسيون العرب والخليجيون خصوصًا، وهم يطلون من على شاشاتهم، في الغالب يصفون الصراع الإيراني الإسرائيلي بالمسرحية التي تمثلها الدولتان للعبث بعقولنا ليس إلا. وعلى ذلك المنوال تبعهم البعض في التعاطي مع الصراع وأدواته.
في سعير الأعمال العسكرية التي اجتاحت سوريا خلال أربعة عشر عاما اقتربت إيران كثيرا من حدود دولة الاحتلال، هذا الاقتراب زاد من حدة التنافس الجيوسياسي بين الطرفين وفاقم من مخاوف الكيان الصهيوني من أن تتسارع وتائر مد كل من حزب الله وحركة حماس بمزيد من الأسلحة النوعية التي قد تعقد الوضع بحيث لا تستطيع إسرائيل السيطرة عليه بمفردها، وقد برهن طوفان الأقصى على أن إسرائيل قد عجزت فعلا عن إدارة الصراع مع حماس بدون دعم أمريكي لوجستي ومشاركة فعلية من خلال وجود قوات على الأرض باسم الجسر العائم في غزة والذي استخدم كواجهة خيرية تعمل الاستخبارات الأمريكية والغربية عموما خلفها.
يقول فلاديمير ساجين، الباحث الأول في معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية إن” تاريخ المواجهة بين جمهورية إيران الإسلامية وإسرائيل مستمر منذ عقود، والسبب الرئيسي لهذا الصراع أيديولوجي وسياسي”. وأن “القادة الإسلاميين ـ هكذا يصفهم- يعتقدون، ولا يزالون، أن إسرائيل احتلت أرض فلسطين، وتحتلها بشكل غير قانوني تمامًا، ولا يمكن أن تكون موجودة هناك”. ولكن بصرف النظر عما إذا كان الصراع الإيراني لإسرائيل يقيم بأساسه الأيديولوجي او الجيوسياسي وصراع النفوذ إلا أنه قد تقاطع فعليا مع رغبات المقاومة الفلسطينية التي تركت مكشوفة بعد أوسلو.
لا يختلف اثنان أن صراعا محتدما يدور لحسم كفة ميزان القوى بين مثلث إيران- تركيا- إسرائيل. لكن المسألة لا تتوقف عند الحدود الإقليمية بل تتجاوزها لتلامس مصالح وصراعات ذات أبعاد دولية وعالمية ربما تترتب عليها متغيرات قد لا تكون مدركة في اللحظة الراهنة.
تؤثر هذه الحرب على مسارات كثيرة من بحر الصين وتايوان وأوكرانيا مرورا بالمضايق والممرات المائية: السويس، هرمز وباب المندب» إذا تجاهلنا البوسفور، وهي بكل تأكيد ستؤثر على الوضع الإنساني في بلادنا بصورة لا يمكن حسابها ما دمنا مثل المسافر الطفران(نتشعبط) بكل الحروب التي تجوب العالم، لا نحتاج إلى تأشيرة عبور.
ما يشغل الكثيرين من الساسة في بلادنا ليس تداعيات هذه الحرب وانزياحاتها وتأثيراتها الاستراتيجية المستقبلية اللاحقة على المنطقة بنطاقها العربي والإسلامي، بل كينونة السلطة وصيرورتها، فبالنسبة لها فاللحظة مواتية لاقتناصها. مع أننا لو أمعنا النظر جيد في الأمر لوجدنا أنه لا فرصة من هذا النوع تلوح ولا هم يحزنون، ذلك أن حالة الخواء السياسي للكيانات القائمة وانسداد أفق التلاقي بينها على كلمة سواء يجعل الأمر مجرد رؤية سراب في يوم قائظ.
ربما يكون الشيخ عبد الرب السلامي أكثر حصافة فيما ذهب إليه في مقاله (ما بعد الحرب...سيناريوهات التدافع) إلى القول: “نحن اليوم، أمام مرحلة حرجة للغاية، تنذر بتصفية الساحة لصالح قطب واحد، هو “إسـرائيل”. فإذا قُدّر لهذه الحرب أن تنتهي بانتصار إسـرائيل، فإن ذلك سيؤدي إلى انطلاق يدها نحو بلدان أخرى”. وبرغم أن السلامي ينظر إلى الأمر من منظوره الأيديولوجي الخاص وليس من ناحية ضرورة أن يكون للعرب كأمة حضورها في مجرى التاريخ وتفرض قواعدها الخاصة بصراع النفوذ والسيادة إلا أنه مع ذلك خالف الكثيرين ممن استغرقتهم الذاتية.
لكن علينا ألا نتوهم أن المذهب يعني شيئا للدولة الصهيونية في هذا التصارع، فهي تحتل فلسطين وتنكل بشعبها مع أنه لا يندرج في بند الوصاية المذهبية الإيرانية، وهي في صراع مع إيران بالرغم أنها ليست سنية ولم تكن جزءاً من معركة خيبر ولن تكون ذات يوم.
من يمتلك أسباب القوة هو عدو إسرائيل بعيدًا عن المذهب، ولن نتوهم أبدا أن تترك الولايات المتحدة أو الغرب إسرائيل تحت سيف الهزيمة بصرف النظر عن الجهة التي تخوض ضدها الحرب. هذا بالضبط ما يفرض علينا في اللحظة الراهنة إيجاد توازن فعال بين رغباتنا وبين ما يعتمل في الواقع، فقد سبق واحتُفل بما جرى للعراق، لكن كان ذلك وبالا على المحتفلين.
المخاطر المحتملة اليوم بعد انخراط الولايات المتحدة في الحرب لنصرة إسرائيل تتعلق بالانبعاثات الإشعاعية في حالة حدوث تسرب، وهذا أكثر قربا للواقع من أي فرضية أخرى، ومادام قد حدثت مشاركة بطريقة أو بأخرى في تسعير الحرب، فليس أقل من العمل على تجاوز آثارها. لا نعرف لصالح من ستلعب الرياح لكن المنطقة الشرقية من بلادنا ستكون ضمن المناطق الأكثر تضررا.