أحببتُ عدن وأنا طفل صغير، عندما كانت السفن تأتي منها محملة بشتى أنواع البضائع، المواد الغذائية، الارز والسكر والشاي، والبهارات، والملابس، والتمور، والمعلبات، والحلويات، والبسكويت، والشيكولاتة، وما لذ وطاب، وعليها الماركة المسجلة (ميدن عدن)، وكان جزء ٌ منها يستقر في دكان أبي، فصار حلمي أن أرى تلك الـ«عدن» التي تأتي منها كل تلك الأشياء. وحين تحقق حلمي ورأيتها، وكنت مازلت طفلاً لم يتجاوز الثامنة وجدتها فوق خيالي وتصوري. دخلت إلى قلبي، وصارت مني وأنا منها.
ولما لا؟
كانت مرفأً مؤهلاً لأن يمنحنا الحياة، وسيدة التجارة، أحد أهم موانئ العالم شهرة، تستورد وتعيد التصدير إلى شتى موانئ القارات، يساعدها موقعها الإستراتيجي بين الشرق والغرب، وكونها منطقة تجارة حرة ليس لها منافس. ليس ذلك فقط، بل أن التطور الاقتصادي والتجاري الذي شهدته، جعل منها مركز جذب لرؤوس الأموال، وسوقاً كبيراً للعمل، ومسعى الباحثين عن الفرص والتعليم وتحقيق الذات، فجاءت إليها الجنسيات من شتى البلدان والقارات، وبالذات من آسيا والشرق الإفريقي، وحتى من أوروبا، بالإضافة إلى سكان المحميات والسلطنات، وحتى من مملكة الإمام في اليمن، ووجد الجميع فيها متسعاً للعيش والعمل والحياة الآمنة، على اختلاف جنسياتهم، ودياناتهم، وثقافاتهم، فصارت سلة خبز للجميع، ومدينة للتعايش الإنساني.
حول مينائها الذي شكل جزءًا من تاريخها وهويتها، نشأت شركات ملاحة وتأمين وشحن وتفريغ، وخدمة وتموين السفن الداخلة والخارجة، ونشطت تجارة الاستيراد والتصدير التي جعلت منها سوقاً كبيرا تضج فيه الحياة، لانهاية له، ولا لإغراء بضائعه ورخصها، والقادمة من كل العالم. كما امتلكت بنية تحتية وكل ماتحتاجه مدينة بهذا المستوى من تعليم وخدمات صحية وكهرباء ومياه، مصافي بترول، ومواصلات واتصالات، وبنوك وفنادق، ومتاجر ومستودعات، ومخازن، واسواق، وأندية رياضية وثقافية ونقابات وجمعيات أهلية، ودور سينما، وصحافة واذاعة وتلفزيون، وشركات نقل وطيران.
ونشأت أحياء ومدن جديدة لاستيعاب الكثافة البشرية وتلبية حاجاتهم للسكن والعيش.
غدت عدن مدينة للتعايش الإنساني لمختلف الجنسيات والأديان والثقافات، وللانسجام التام، بما توفره من بيئة عمل وحياة نموذجية للجميع والعيش بحرية وكرامة وممارسة معتقداتهم وثقافاتهم المتنوعة، فغدت انموذجاً لاحترام الإنسان، أياً كانت ديانته، أو ثقافته، أو جنسيته، وعزز النشاط التجاري لعدن، وروح التسامح لدى أهل عدن، هذا المفهوم الحضاري والإمكانية للتعايش الإنساني بين مختلف القوميات التي تكون منها النسيج الاجتماعي لعدن.
خلال الإضرابات والمظاهرات من أجل الحريةوالاستقلال الوطني، كنت تجد الجميع من أبناء وسكان عدن جنباً إلى جنب. العدني والهندي والصومالي واليمني والحضرمي.. القومي، والبعثي، والماركسي، يجسدون معاً روح الوحدة الوطنية، والتلاحم الوطني، وسقط شهداء وجرحى من الجميع خلال الكفاح المسلح بأيدي رصاص جنود الاحتلال الذي لم يفرق بين هذا وذاك.
بعد الاستقلال، فقدت عدن هذه الخاصية، والكثير من مميزاتها وأفضلياتها كمنطقة تجارة حرة، ومنطقة جذب للاستثمارات، وسوق للعمل، وغادرها العديد من الجنسيات التي شكلت جزءًا من نسيجها الاجتماعي وساهمت في تطورها المعاصر خلال عقود، نتيجة بعض السياسات الخاطئة من حكومات مابعد الاستقلال عام1967 التي حولت عدن إلى مدينة طاردة ليس فقط لأبناء المدينة من الجنسيات الأخرى، بل بدرجة رئيسة لأبناء عدن بالذات الذين صاروا خارج معادلة الشراكة الوطنية في السلطة وصنع القرار، و صار مصير ومستقبل مدينتهم في يد غيرهم !
جلب المتنافسون على السلطة، صراعاتهم وثاراتهم إلى المدينة المسالمة، وجعلوا من عدن مسرحاً للصراعات التي غلب عليها العنف ودورات الدم كل عدة سنوات، مما طبع الحياة بعدم الاستقرار، فذبحوا التجربة بأيديهم، وكان لها إيجابياتها وسلبياتها ككل تجربة إنسانية. لكن برغم ذلك ظلت الدولة موجودة وحاضرة بمؤسساتها، ووظائفها، وخدماتها، وأجهزتها وحافظت على سيادتها....
لكن ما أن تبدأ قليلاً بالتعافي السياسي والاقتصادي ويتنفس الناس الصعداء حتى تدخل في دورة دم جديدة، كأن هناك قوى خفية تؤجج الصراعات فتطفو على السطح من جديد. مرة على شكل حرب أهلية، ومرات على هيئة حروب بين النظامين في الشمال والجنوب. وحتى الوحدة التي رأى فيها الناس خيراً وأملاً ونهاية للحروب، وفرصة لبناء دولة ديمقراطيةعصرية قوية تنهض بحياة البلاد والشعب، جلبت لعدن حربين مدمرتين، والكثير من الويلات والبؤس الذي لاتزال تعاني من آثارهما حتى اليوم،كأن هناك من يريد الانتقام من المدينة التي فضلها على الجميع.!
●● يبقى السؤال مشروعاً: من سرق منا عدن الجميلة ؟
من يغتال روح المدينة والحياة المدنية ؟
من سرق منا عدن الجميلة ؟
هل من جواب ؟!