إعداد/ إدارة الثقافة :تتميز الحركة التشكيلية السورية بذلك التواصل الذي يمتد من بدايات القرن العشرين حتى الآن من دون انقطاع أو قطيعة، وإنما مسيرة متناغمة ذات إيقاع عاكس لإيقاع الواقع ومتغيراته. ولأن المسيرة طويلة نسبياً، فـأي محاولة للتأريخ لها لا بد من أن يشوبها بعض اختصار واختزال وربما انتقاء، فالهدف في النهاية ليس التأريخ بعينه، ولكنه العثور على أهم الملامح المشتركة والوقوف عند المنتجات الأهم، من أجل إعطاء صورة أقرب إلى الحقيقة عن تلك المسيرة. وهنا يحاول الناقد عبدالله أبوراشد، رسم لوحة واقعية ذات أبعاد نقدية للحركة التشكيلية السورية المعاصرة، التي قسمها إلى ثلاث مراحل يرى أنها تمثيل صادق لثلاثة منحنيات خطرة في طريق هذه الحركة قائلاً: مما لا شك فيه، أن الحركة الفنية التشكيلية السورية هي حركة فنية معاصرة شأنها في ذلك كـمثـيـلاتها في العالم العربي. وهي من أكثـر المنتجات الثقافية تفاعلاً، وتواجداً في مساحة العروض الفنية في سوريا وخارجها. والنشاط الكمي الأكثر تميزا وزخما وجوديا في كافة معابر التواصل البصري مع المبتكر وجمهوره ونقاده وصحفييه، ومروجي العمل الفني ومقتنيه، وان حركة المعارض الفنية الجماعية والفردية المليئة بالتجارب الفنية التشكيلية السورية، ذات النفحة المتفردة لخـصوصيـة هذا الفنان وتلك الفنانة، تستحـضر كـافة الأجـيال والمدارس والاتجـاهات الفنية التقليدية، والتسجـيليـة والسياحـية والفكرية الحداثية، ما بعد الحداثة (الشيئية) أو سـواها. يمكن للمـتلقي والبـاحث ونقـاد الفن، ووسائط الإعلام المسموعة، المرئية، والمكتوبة، أن تلحظ الخط البياني التصاعدي لهذه الحركة الفنية التشكيلية النشطة كميا التي لها من العمر نحو سبعين عاما من العطاء المستمر القائم على التنوع والاختلاف المنهجي والمحـتوى الموضوعي والأسلوبية الشكلية والمعالجـة التـقنيـة، لهذه التجرية الفنية أو تلك، إذ يمكن رصدها وتوثيقها منهجياً في ثلاث مراحل زمنية رئيسية. المرحلة الأولى: منتجـات فناني الرعيل الأول الذين تربوا وتدربوا على أنفسهم في منتجـاتهم، وتجاربهم الفنية الابتكارية التي وجدت في فنون التقليد والمحاكاة، واستنساخ الأعمال الفنية في سياقـها النمطي، والمؤسسـة في بعضها على النزعات الفطرية (فن الناييف) شكلاً مألوفاً لآليات العمل الفني. المرحلة الثانية: المنتجات التي توافقت مع الروح الأكاديمية المدرسية ذات النفحات الأيديولوجـية المحـمولة وفق توجـهات المؤسسـة الرسمية والحكومية النقابية كتعبير مطابق لثقافة السلطة السائدة. المرحلة الثالثة: المنتجات المتساوقة مع روح العصر(ما بعد الحداثي)، المتوجهة إلى خصخصة الفنون التشكيلية لحساب الصورة البصرية، كجزء لا يتجزأ من حركية المجتمع الاستهلاكي.
في كل الأحوال، لأبد من القـول إن الفن التشكيلي السوري يتسم بصفات وخـصائص عديدة، إنه مفتوح على التجارب العالمية متدثر بأثواب الحرية التعبيرية المنفلتة من عقال اللمسة الأيديولوجية، وإن كانت هي الصفة التعبيرية الأكثر حضوراً في عموم التجارب والأجيال الفنية المتعاقبة. السبب كامن في جوهره بآليات الصراع العربي- الصهيوني، وما حمله هذا الصراع على مدار خمسين عاماً من المآسي والخلفيات، والأفكار الأيديولوجية المعمقة لتفاعلاته على المستويات الإنسانية الابتكارية في كافة منتجات العمل الفني، والتشكيلي على وجه الخصوص. تجارب فنية تشكيليـة متنوعة، متجاوزة أحياناً للنزعات المدرسية الأكاديمية، أو جامعة لمجموع مدارس وتيارات فنية، وتقنيات حتى في التجربة الفنية الواحدة في بعض الأحيان. تلبس المنتجات الفنية، والفنانون التشكيليون من داخل البيت الفني المدرسي الأكاديمي ومن خارجه، أثواب العصر الحديث، والحقبة العولمية، بينما نجد في الوقت ذاته تيارات وتجارب تقف راسخة البنيان والمقولات في الاتجـاه المقابل، منحـازة للذات الفنيـة في إيقاعاتها المحلية القومية، منتمية لجماليات المكان السوري وثقافته المعرفية والبصرية، وأبعاده التاريخية والحضارية، وهويته العربية القومية في زخمها الجمالي الإسلامي، تخوض معركة إثبات الذات المحلية والخصوصية التعبيرية، من خلال التغني بحرفية الأرابسك والاشتغال على مكونات وعناصر (التشكيل الحروفي) حينا، أو استحضار الفن السوري التـراثي القديم وتقديمه في إطار وجبات لونية وخطية وفكرية غنية في الاستحضار المجازي (الفنتازيا) كعبث أسطوري لذاكرة بصرية ومفـردات، ونص فني تشكيلي متنوع الخـامات والتقنيات والمحـتوى الموضوعي المرصوف على موائد الثقافة البصرية السورية حيناً آخر، لتشكل مثل تلك التجارب إسقاطاً لمفاهيم (أيديولوجيا) من نوع آخـر. كمحاولة قومية عربية مشروعة للدفـاع عن الهوية والبـحث عن الذات الفنيـة والخصوصية المحلية في معابر التأليف التقني والشكلي في انسـاق عالمية الفن حداثة وتوحداً إنسانياً. تعود بدايات الحركة الفنية التشكيلية السورية، كوجود زمني وصيرورة تطورية إلى النصف الأول من القرن العشرين، حـيث كان للواقـع السياسي الذي تعيشه المنطقة العربية عموماً وسوريا خصوصا، من انضواء تحت مظلة وسيادة الحقبة العثمانية التي ساهمت في تكريس الفنون العربية الإسلامية ذات الصبغة والأسلوبية العثمانية، لم تتـجاوز المنتجـات الفنيـة آنذاك إطار الفلسفة الإسلامية في أنماطها الجمالية كنوع من الحرف والمهن الفنية التطبيـقية الضرورية والملبـية لحاجات يومية محددة، المبتعدة بطبيعة الحال عن سياقات الفنون الجـميلة (التشكيلية) في الغرب الأوروبي في إحـالاته الفنية والمعرفية والجمالية والتـقنيـة، كـتلك الأعمال ذات البناء التـقني والشكلي النحـتي في كـتل مليـئـة بالموضوعات الإنسانية (التشخيصية) أو الحفرية الترسيمية المتبعة في مختلف الدول والكيانات الثقافية وفي الفلسفات الأوروبية البينية، وإن مجموعة من المواهب الفنيـة السـورية وجـدت في الحقبـة العثمانية مكاناً مناسباً لذاتها الابتكارية، من خـلال التعـامل الفني مع اللوحات التـصويرية الزيتية التزيينية ذات الطبيعة الاستنساخـية، المكرسة لشخوص القادة والأمراء الأتراك الذين عبروا على سورية، وتسجيل المواقف ألبصرية لمآثرهم في كافـة المدن والمحافظات السورية من مساجد، وتكايا وقصور وأسواق ومزارات، ومعالم تاريخـية حـضـارية، وجمالية تخلد ذكـراهم، أو محاولة استلهام التاريخ واستحضار صور للخلفاء والفـاتحين العـرب والمسلمين، وتصـوير المعـالم الدينية الإسلامية، ومعاركهم الحاسمة في مفاصل التاريخ. وثمة نمط آخر من الفنانين التشكيليين السـوريين الأوائل، الذين وجـدوا في الحـقـبـة الاستـعـمـارية الأوروبية الغـربيـة (الانتـداب الفرنسي)، مجـالاً متاحاً لصقل مواهبهم، ورعايتها، عبر ما تتيحه السياسة الاستعمارية من احتواء وأهداف توسعية، حيث وجد الاستعمار الأوروبي الفرنسي ضـالتـه المنشـودة في قنوات الثقافة عموماً والبصرية خصوصا. أولى محاولاته للدخول المريح من خلال معابر الفنون الجميلة (التشكيلية)، كسياق طبيعي (تطبيعي استعماري)، وعامل مهم في تشكيل ذاكرة بصرية سورية تتناغم وذاته الابتكارية، تدور في فلك مرجعياته الثقافية والبـصرية التي تدين بالوجود والولاء للنزعات الفرنسية (الفرانكوفونية)، التي عملت جاهدة على تكوين ثقافـة بصرية سوريا تابعة لفنونها الفرنسية الطابع والأسلوبية التقنية والمحتوى الموضـوعي، وقـد كـانت اللمـسـة الأوروبية (الاستـشراق)، المجـال الحـيوي العـريض والمثـير للدهشـة والإبهـار لدى الفنانين التـشكيليين السوريين في تلك المرحلة الزمنية، مما يسر وسهل عمليات استمالتهم إلى بيانها الفني التشكيلي، والعمل الفاعل لاستقطاب وظيفي للعديد من المواهب الفنية السورية، لا سيما شرائح الشباب، وتبنيهم فنيا رعاية ودعما متنوع الموارد، وصقلا لمواهبهم عبر المنح التعليمية التي كانت تقدمها سلطة الانتداب الفرنسي آنذاك في هذا السياق، لقمـد برزت مجـموعة من الفنانين التـشكيليين السوريين الذين درسوا في الغرب الاروبي عموماً وفرنسا خصوصاً (المدرسة الوطنية- بوزار باريس). وارتهن وجودهم الزمني والمكاني إلى إنتاجية فنية تميل نحو التقليد والتبعية والمهنة الحرفية أكثر منها للروح الابتكارية والأكاديمية. نذكر من هؤلاء الفنانين على سبيل المثال: توفيق طارق، ميشيل كرشة، محمود جلال، عبدالوهاب أبوالسعود، سعيد تحسين، صبحي شعيب، خالد معاذ، أنور علي أرناؤوط، وفتحي محمد.
لقد كان الفنان توفـيق طارق الذي عاش ما بين 1875 و1940، من الأوائل الذين سخروا مواهبهم وخبراتهم الفنية التجريبية، وثقافاتهم المعرفية والبصرية للأجيال الفنية الناشئة التي تتلمذت على يديه في محترفه الفني بمدينة دمشق. شكل عاملاً مؤثراً في تعميم الأنماط الفنية التسجيلية ذات الصبغة المهنية الاحترافية المطابقة تأليفاً وبناء تكوينيا، وذات طبيعة مهنية أقرب إلى الحرفة والصناعة منها إلى الفن التشكيلي الأكاديمي التعليمي. بل اتخذ أسلوبية العين واليد الخبيرة في تصوير المناظر الطبيعية والمشاهد الخلوية واللوحـات الشخـصـية للقـادة والأمراء العرب المسلمين، والمعـارك الفاصلة في التاريخ العربي الإسلامي، وتسجـيل اللقطات البصرية الموثقة للمعالم الإسلامية من مساجد وأحياء دمشقية باعتبارها الشغل الشاغل، والمجال الحيوي لعموم رسومه ومنتجه الفني التشكيلي الذي رافقه طيلة حياته الفنية، ومن أبرز لوحاته (معركة حطين). أما الفنان (عبدا لوهاب أبوالسعود) الذي عاش ما بين 1897 و 1951، والذي كـان متـعدد المواهب الفنية التي توزعت ما بين المسرح والفن التشكيلي، والعمل التربوي الوظيفي كمدرس في مدرسة التجهيز الأولى بمدشق، فقد كان له اكبر الأثر في رعاية مجموعة من الفنانين والمواهب السوريا التي أمست تلك المدرسة موئلاً ومكاناً مميزاً لرعاية الموهوبين، ومركزا أساسياً في تفعيل الحضور الفني لحـركتي الفن التشكيلي والمسرح في سوريا. كان مأخوذاً بالجماليات العربية الإسلامية، وبفنونها الزخرفية وعمارتها المتميزة التي رافقته في كل لوحـاته ومنتجـاته الفنيـة توثيقاً ولمسة تقنية ومواقف بصرية تسجيلية. من أشهر لوحاته (فتح الأندلس- قصرالحمراء). بينما جسد الفنان (سعيد تحسين) الذي عاش مـا بين 1904 و1985 النقلة النوعـيـة في تاريخ الحـركة الفنية التـشكيلية السوريا، من الفن الفطري ذي النفحة المهنية الشعبية، إلى الصيغة الأكاديمية ذات الأبعاد المهنية الدراسية، مستفيداً من وجوده في بغداد (1924) كمدرس للفنون في دار المعلمين مما أتاح له تمثيل الروح القومية العربية التي كانت تجد لها فسحة واسعة في تلك الفترة، حيث كانت اللوحة التاريخية والشعبية والسياسية الاجتماعية التحررية هي عناوين بارزة في عموم لوحـاته. من أهم أعماله (صلاح الدين الأيوبي، قصف المجلس النيابي). أما الفنان (محمـود جلال) الذي عاش ما بين 1911 و 1975. فيعتبـر حجر الأساس في ولادة المنهج الأكاديمي في الفن التشكيلي السوري، من موقـعه كتربوي وفنان منتج في وقت واحد، فقد سمحت له مواقـعه الوظيفية في إطار السلك التربوي، خوض غمار البـحث عن طرق ومنافذ أكاديمية لرعاية وصقل المواهب الفنية السورية من خلال البعثات التعليمية في دول الغرب الأوروبي ومصر العربية المتقدمة فنياً، فكانت جهوده المبذولة خطوة البداية لإيفاد عشرات الأسماء الفنية التي تبوأت مكانة مرموقة في الحركة الفنية التشكيلية في عموم الأراضي السوريا ومدينة دمشق وحلب على وجه الخـصوص. لقد كان الفنان محمود جلال تربويا فـاعلا ومصوراً ونحاتا مميزا أنتج العديد من الأعمال الفنية من أشهرها لوحاته التصويرية (صانعة القش). بينما تفرد النحات (فتحي محمد) الذي عاش مـا بين 1917 و 1958، والذي وجـد نفسـه وذاته الابتكارية في ميادين النحت في تقنياته المتنوعة الخدمات والقدرات لا سيما خامة (البرونز)، في أسلوبيته التعبيرية المتأثرة بالمدارس الإيطالية وبالفن ذي النسب المذهبية التقليدية، حيث أسس لوجـود نحت سـوري مـعـاصر خـارج المألوف الاجتماعي والنفحة الدينية التحريمية، مقدما مجموعة من التماثيل والنصب التذكارية التي ازدانت بها الساحات العامة المنتشرة في سورية، أبرزها تمثال الشهيد عدنان المالكي الموضوع في ساحة المالكي في حي أبي رمانة في دمشق.
بناء على ما تقدم، نجـد أن المنح الدراسيـة الممنوحة لأصحاب المواهب السوريين. قد قدمت الفرصة المناسبة لترسيخ معارفهم وخبراتهم، وثقافتهم البصرية والتقنية، من خلال الاطلاع على تجـارب الدول المتقدمـة في هذا السيـاق، وهناك عشرات الفنانين الذين درسوا وتخرجوا من الأكاديميات الفنية في الدول الأوروبية الغربية مـثل: فـرنسا، بريطانيا، ألما نيـا، وايطاليـا، وفي مرحلة لاحقة في الدول الأوروبية الشرقـيـة الاشتراكية مثل: روسيا، بولندا، روما نيا، بلغاريا وألمانيا الشرقية. وآخرون وجدوا في مصر العربية مجـالا جيدا لمتابعة الدراسة الفنية الأكاديمية، بحيث أمسى هؤلاء الخريجون اللبنات الأساسية في بناء الحركة الفنية التشكيلية المعاصرة، كرعيل أول متشكل أساساً في سياق تجمعات فنية في باديء الأمر، مثل: (جمعية أصدقاء الفن)، أو من خلال محترفات الفنانين الميسورين أنفسهم، الذين وضعوا مشاغلهم ومراسمهم في خدمة الثقافة البصرية لأصحاب المواهب من شرائح الشباب. لقد كان لولادة كلية الفنون الجميلة، بجامعة دمشق في ستينيات القرن العشرين أكبر الأثر في رعاية المواهب الفنية السوريا والعربية، وصقلها في الاتجاهات المدرسية الأكاديمية المرغوبة، وأمست كليـة الفنون الجـمـيلة منذ ذلك الوقت وحـتى اللحظة الموئل الأساسي الرافد للحـركة الفنية التشكيلية السوريا المعاصرة بالمواهب الفنية في سوق إنتاجية العمل الفني التشكيلي. إذ تخرج هذه الكلية في كل عام أفواجا من الدارسين في مجالات الدراسة الأكاديمية، الموزعة في خمسة فروع وأقسام رئيسية هي: التصوير بأنواعه، النحت بأنواعه، الحفر والطباعة اليدوية، الاتصالات البصرية، الإعلان، التصميم الداخلي والديكور. يشكل مـجـموع الدارسين في كل عقد زمني مرحلة من مراحل الأجيال الفنية الأكاديمية المتعاقبة. إضافة إلى مجموع المواهب الدارسة في المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السوريا وفي كل المحافظات السوريا. ويمكن القول إنه كان هناك نحـو أربعة أجـيال فنية متعـاقـبة متنوعة الاخـتـصـاصـات الفنيـة مـا بين 1965 و1995، استطاعت قلة منهم متابعة رحلة الفن والحياة عبر الخامات والمواد الفنية المتنوعة ذات الصلة بميادين الدراسة الأكاديمية، وكثير منهم حققوا لذاتهم الفردية الابتكارية حضوراً ثقافياً وبصمة فنية مميزة لصيقة باسمهم كمثال يحتذى للعديد من الدارسين والفنانين التـشكيليين السـوريين والعرب. ذاكرة الفن التشكيلي السوري البصريةننطلق من مـقـولة أن الفنون الجـمـيلة (التشكيلية) هي اللغة البـصرية الوحـيدة التي تحقق التفاهم الإنساني، وتعمق أواصر الصداقة والتوافق والاحتواء والتفاعل النفعي الحضاري، والثقافي والجمالي ما بين الشعوب والأفراد، بعيدا عن تأويلات الكلام المكتـوب حـول النص الفني التـشكيلي. وهي بذلك تشكل لغة عالميـة فـوق القوميات وحدود الجغرافيا الإقليمية للدول والأديان وأنماط الإيديولوجية المحلية والقومية. متجاوزة لكل المفاهيم الإيهامية بمحدودية الفن التشكيلي وقدرته على التواصل في صنح حضارة إنسانية شمولية متكاملة البصمات، وجامعة للهويات والخـصوصيات، نرى أن الحركة الفنية التشكيلية السوريا لم تتبلور كوجود ثقافي وذاكرة بصرية مستقلة عن مرجعيات منتمية إلى ثقافة وبصريات الآخر في الضفة الاورويية الأخرى. وما زالت في طور التجريبية المبررة، والمفتوحة على التنوع والاختلاف المفاهيمي والشكلي والتقني، في إنتاجـية كمية (نشاطية) تدعو إلى التفاؤل ومشروعية الطموح المستمر في إيصال المنتجات الفنيـة الفـردية السورية وروداً طرية وندية في حـديقـة الفن التـشكيلي العالميـة، حـاملة في منتجاتها المكونات الرئيسية في هذه الحركة من حـيث المنتج الفني (الفنان)، والعـمل الفني، وجمهور النخـبة المتمثل بالمقتني والتاجر المروج والصحافي الإعلامي، والناقد الفني المتخصص، ووسائل الإعلام المتنوعة في مجملها تدور في فلك التفاعل مع الآخر الثقافي محاكاة وتقليدا، لا سيما الفن الأوروبية الغربي الذي تشكل منتجاته وتجاربه الفنية التشكيلية مركز الاستقطاب العالمي، كمرجعيات لا فكاك من الاقتداء بها في أي عملية ابتكارية، أو تجربة فردية معرفية أو بصرية ليس في سوريا وحسب، بل في عموم بقاع الكرة الأرضية، من هنا نعتقد أن الإشارة إلى مرجعيات وذاكرة الحركة الفنية التشكيلية السوريا المعرفية والأكاديمية البصرية ضرورة منطقية ومنهجية، يتحقق من خلالها عملية التكامل والشمولية الثقافية ما بين الشعوب والدول والهويات المحلية والقومية المجتمعة في بوتقة عالمية واحدة. يمكن تصنيف هذه التراكمات المعرفية البصرية المرجعية في أربعة مصادر رئيسية هي: 1 - الذاكرة البصرية الأوروبية الأكاديمية (نمط منتجات عصر النهضة الايطالية). 2- الذاكـرة البـصـرية الاوروييـة الحـديثـة (الحداثة وما بعدها) (نمط منتجات أوروبا الغريبة والشرقية).. 3 - الذاكرة البصرية المصرية ذات المرجعيات الأوروبية والغربية والشرقية. 4 - الذاكرة البصرية الاستلهامية من وحي التراث المتحققة بحرفية الارابسك، أي التشكيل الحروفي. والحرف المهنية، والأوابد التاريخية الحضارية للممالك السوريا القديمة المغرقة في القدم والمحملة بمقولات أسطورية، وأخرى تسجيلية للاماكن الخلوية للطبيعة السورية المتنوعة. هذه المرجعيات الأربعة التي تضم في خلفياتها الفكرية والبـصرية، بحسب التوصيف الأوروبي الغربي كمجـالات ومـيـادين الفنون الجميلة (التشكيلية) الخمسة سالفة الذكر في سياقها التخـصصي المعمول به أكاديمياً في كلية الفنون الجميلة والمعاهد الفنية السورية ذات الصلة، تدور في كل الأحوال بدوامـة التـفـاعل البـصـري التجريبي، وفردية الفن ونخبويته في كافة المسارات التواصلية، والتي لاتنفصل بشكل أو بآخر عن النزعات المركزية الغربية الأوروبية. مدارس وعلامات فنية مميزة في الفن التشكيلي السوريالفنان التشكيلي السوري ابن تجربته الثقافية البصرية غير المحدودة في نمط قـسـري أكاديمي.. ومنتـجـاته الفنيـة التشكيلية أساسا قائمة على الحرية التأليفية في اخـتيار الموضوعات، وعناصر ومفردات ورموز التكوين، وتقنياته وبنائية العمل الفني في صورته التعبيرية النهائية واللصيقة بطبيعة الحال بالتفرد الأسلوبي والخصوصية التعبيرية والتقنية لكل تجربة فنية سورية . فإن التنوع والاختلاف هما المجـال الحـيـوي لكل ذلك النشـاط الكمي في الحركـة الفنية التشكيلية الذي لم يفرز حـتى اللحظة فنا تشكيليا سوريا خالصاً بل تنهل عموم التجارب الفنية من بحر التنوع المدرسي والمعالجة التقنية، إذ نجد في المنتج الفني الواحد عموم المدارس والاتجاهات الفنية ذات استنسابية أوروبية غربية في سياق مستنسخ حيناً، ومنسوخ في كثير من الأحيان، موزعة ما بين الواقعية الكلاسيكية، مروراً بالتعبيرية، الواقعية، الرمزية، وحرفية الأرابسك، وصولا إلى التجـريد، وفنون مـا بعد الحـداثة (الشيئية)، وان كانت غالبية الأعمال الفنية التشكيلية متراوحة في كثير من الأحيان ما بين المدارس ا لثلاث الأساسية (الواقعية التعبيرية، والتعبيرية الرمزية، التعبيرية التجريدية)، أي أنها تراوح في حدود المدرسـة التـعبيـرية ذات الأنفاس الألمانية التي تجد لدى الفنان التشكيلي السوري راحة تأليفية، وانسجاماً نفسياً وانفعالياً واستحـضاراً ملهما لذاته الفكرية والفلسفية والبصرية. متوافقا مع حقيقة الواقـع العربي المعاش، وما يتعرض له الوطن العربي عموما والسوري من تحـديات داخلية وخارجية لا سيما مسالة الصراع العربي- الصهيوني، واندماج الفنان التشكيلي السوري مع أحداثه وتفاعلاته وطنيا وقومياً وإنسانياً. ثمة علامات فنية تشكيلية سوريا فردية حفرت لذاتها الابتكارية الإبداعية بصمات عميقة في مساحة الفن التشكيلي السوري والعربي والعالمي، والمدربة فنياً وتقنياً وفق التربية الفنية الأكاديمية الغربية الاورويية، ففي مجال التصوير برع الفنان (فـاتح المدرس)، في تكريس ذاته الفنيـة كـحـالة ثقافية سوريا مشهودة، وجعلته ذاته الابتكارية المتنوعة الاهتمامات يلعب دوراً رئيسياً في ثقافة العـديد من الأجـيال الفنية السوريا، وأمسى مـرجـعـيـة لهم في أعمالهم على الرغم من مرجعياته الأوروبية الغربية. أما في مجال النحت فقد تفرد الفنان النحات سعيد مخلوف، بذاته الابتكارية، وتفرده الأسلوبي والتقني، وخروجه الملحوظ عن مرجعيات الذاكرة البـصـرية الأكاديمية والأوروبية الغـربيـة في آن واحد، مقدماً تجاربه البحثية في اكتشاف قدرات الخامات البيئية السوريا على التطويع والعطاء الفني المثير للتفاعل والبصريات الحافلة بكل أسرار وجماليات المكان السوري في حديثه وقديمه عبر توليفاته التقنية والشكلية على خـامات الخـشب المتنوع والصلصـال والزجـاج والعظام وسواها، مستنبطا خصوصية سورية خالصة في هذا الاتجـاه الابتكاري الإبداعي. وشكل ذاكـرة بصـرية للعـديد من النحـاتين السـوريين، في تعبيريته الفطرية المحملة بهموم الإنسان أولاً وأخيراً. أما في مجال فنون الحفر(الغرافيك) فقد بقي هذا الفن أوروبياً خـالصاً على الرغم من وجـود ملامح جمالية وتقنية حافلة في المواقف البصرية التاريخية العربية المغرقة بالقدم مثل الأختام الاسطوانية والمسكوكات والألواح الطينية المكرسة لأبجديات التاريخ الإنساني. حاول الفنان علي سليم الخالد، من خلال تقنيته المفضلة الحفر الحجري (الليتوغراف)، أن يستحضر رموزه من البيئات السورية المتعددة لا سيما أوابد مدينة تدمر في توليفة تقنية ومحتوى موضوعي يحـدد تجربته النشطة، وليشكل من أسلوبيته ملاذاً بصرياً لبـعض الحـفارين في الوسط الفني التشكيلي السوري.