نجمي عبدالمجيد قصيدة رباعيات الخيام من الشعر العالمي الخالد توزعت شهرتها في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبح اسم عمر الخيام في صفحات المجد في سجل الإبداع الإنساني الذي صور عذابات الروح البشرية في صراعها مع رغبات الحياة ومصيرها المحتوم الذاهب إلى العدم.وقد نالت هذه الرباعيات اهتمام عدة عقول عملت على ترجمتها ودراستها وتتبع سيرة كاتبها عبر حقب من الأزمنة وترجمة كل ما يتصل بهذا الشاعر الفذ الذي كانت إسهاماته الفكرية متصلة في أكثر من مجال.قراءة رباعيات الخيام تتسع مساحاتها وتمتد في عمقها إلى آماد سحيقة في النفس، لذلك نجدها لا تقف عند حدود زمانها، بقدر ما تتواصل مع مفارقات وأزمات روح الإنسان القلقة، فالخيام يجد في الخطيئة واللذة والتمرد، مراحل تمر بها النفس المعذبة ولكنها غير منكسرة، بل هي تمر عبر المطهر لتبلغ بعد ذلك الراحة الأبدية في نهاية المطاف.[No Paragraph Style]خط النصوصعاديوذلك العذاب في عمق اللذة تتجلى صوفيته في معاني الكلمات التي تصبح الجسد والروح لتلك التجربة، فالكلمة هي مرآة الضمير والروح، حيث يبلغ الرفض والتمرد قمة الانفجار وقهر العدم والمطالبة بحق الخلود لهذا الجسد الذي يرى بالجمال ورغبات الحياة الأخرى حق التملك، ولكن الموت يأتي مثل حد النصل ليقطع حلم النفس بل يسقط عنها وهم البقاء، ليذهب الجسد تحت التراب. عن هذه الحال من جنون الإنسان وأطماعه في الدنيا، يقول عمر الخيام:[c1]احس في نفسي دبيب الفناء ولم اصب في العيش الا الشقاءياحسرتا ان حان حيني ولم يتح لفكري حل لغز القضاء[/c]ان النفس وان طال بها الزمن لابد لها من حد تقف عنده لتدرك ان وقت الفناء قد جاءها، وحتى مباهج الحياة تصبح مثل ذرات الرمال المبعثرة على طرق مرت بها الأحلام والرغبات، فالشقاء قد يكون هو آخر ما نحصده من شطحات العقل وتمرد الروح، وما كان بالأمس مسرة قد نجده اليوم ألماً.فالعقل مهما طال به البحث عن سر الموت ومعاني العدم، لا يدرك هذا الشيء وأمامه يقف العقل عاجزاً حائراً مشتت الإدراك، فهذا العقل في عدمه قمة الضعف والعجز الإنساني، لذلك لا يجيب عن لغز القضاء لانه اضعف من ان يصل الى ما وراء العدم، فحدوده البشرية هي مرتبطة بماديات الحياة:[c1]لبست ثوب العيش لم استشر وحرت فيه بين شتى الفكروسوف انضو الثوب عني ولم أدرك لماذا جئت. اين المفر[/c]يرى عمر الخيام أن النفس تدفع بها الأقدار إلى مصيرها فلا مفر من قدر، وما لحظات السعادة في هذه الدنيا الا خداع يلهي الفرد عن حقائق لا يجاورها الا بعد أن يكون قد أدرك حافة الانزلاق الأخير نحو مصيره.والفكر مهما عمل في فهم الأشياء، يصل إلى حالة من التراكم المحاط بالحيرة والشك والقلق، فلا إجابة عن كل هذا، فهل يكون المفر، الهروب هو المخرج الذي يطمئن القلب لبعض الوقت حتى يسكن إلى شيء من الاستسلام الذي يقنع العقل بأن عجزه ما هو الا جزء من تكوين الإنسان الذي لا يملك صفات الكمال.إن ضعف عقل الإنسان في هذا الأمر هو جزء من حقيقة الوجود البشري لقد سعى الإنسان للوصول إلى قمة الكمال ولكنه كان يعجز عن اختراق حاجز الغيب، بل يسقط في صراعات شهواته وأطماعه، وما ثوب العيش الذي يعيش فيه الفرد الا قيود هذه الحياة المحيطة بنا بما فيها من أوجاع وأحلام تتعاقب علينا في هذه الدنيا مثل الليل والنهار.يقول الشاعر الأستاذ أحمد رامي عن عمر الخيام: (عاش الخيام عيشة الشاعر الحكيم اكثر مانعى على الحياة اشد ما علقت نفسه بما نال منها.لذلك نرى في شعره نزعة تشاؤم شائعة: ما اسعد الرجل الذي لا يعرفه احد. ماأهنأ الإنسان الذي لم يهبط الوجود. لم خلقت وكيف لا استطيع الرحيل متى اردت. ليس لنا إرادة في الحياة. القضاء حرب للنفوس الكبيرة. ما لنا نعيب القضاء والقضاء مسير بإرادة عالية.حتى إذا اشتدت به الشكوى نقم على القدر وعاد في حيرته يسأل: لماذا يمنحني العالم ان كان كاملاً ولماذا يخلق فاسداً ان كان في القدرة خلقه خيراً من ذلك؟وكيف نعاقب وقد كتب علينا في لوح الغيب مانقترف؟ثم يعود ويطلب الرحمة للمذنبين طمعاً في كرم الله ولطفه.وأكثر ما يبكي الشاعر عمر على قصر الحياة، الأيام تمر مر السحاب ثم يلقى بنا في طباق الأرض فيستوي نازلها غداً والثاوي فيها من سنين.ومادامت الحياة بهذا القصر فعلام الألم ومثوانا التراب ومجلسنا على العشب الذي غذته اوصال الغابرين، وأكوابنا من الطين الذي اختلطت فيه رؤوس الملوك بأقدام السوقة.نظر يمنة ويسرة فإذا دول تقوم ودول تفنى وإذا النفوس خلت من كريم العواطف، والقلوب أقفرت من رقيق الإحساس وإذا المتقربون الى الملوك ينالون الحظوة لديهم وهم جهلاء، وإذا ادعياء الزهد والصلاح يجهرون بالتقوى وهم اخبث الناس طوية، وانجلى لعينيه بطلان العالم وبان له غرور الحياة).[c1]وكم توالى الليل بعد النهار وطال بالأنجم هذا المدارفامش الهوينا ان هذا الثرى من اعين ساحرة الأحوار[/c]هاهو الليل سمير الخيام يقبل مع النجوم ويرحل كلما اقبلت الشمس، فالأمس الراحل اخذ معه ماحسب من العمر، وما اليوم الآتي الا يد القدر التي تسرق من النفس لحظات وجودها في هذا الكون، لذلك نحن نسير على هذا الثرى وإليه نعود، وماجمال الجسم من عيون ومفاتن تذهب تحت الارض ويصنع منها الزمن هذا الترب، حتى غرور الشباب والجمال لا يكتب له الخلود فهذه النجوم الخالدة في سماء طال بها هذا المدار اما الإنسان فهو اقصر في عمره من ضوء هذا النجم، وإذا ماتت النجوم فهي في علاها سابحة مع ذرات الكون، اما الإنسان، فله مع القبر والتراب موعد الاتحاد والتوحد، لذلك يجب ان تصبح خطواتنا على الثرى مثل دقات القلوب.[c1]سئمت ياربي حياة الألم وزاد همي الفقر لما ألمربي انتشلني من وجودي فقد جعلت في الدنيا وجودي عدم[/c]هذه الحياة بكل ماحوت من الرغبة والجمال ومهما طال بها البقاء، لابد لها من ان تصل الى حدود الالم.اما الفقر الذي يحاصر عمر الخيام فلا يقف عند الأشكال المادية من شهوات الحياة، فالروح ان اقفرت من معانيها وحقائق وجودها، تاهت في طرق مظلمة وطال بها المسير في عوالم غابت معالم صورها وتجاور فيها الغبار والضباب، وطريق الرحيل يمتد ابعد من عمر الانسان، وهنا تظهر عبثية الحياة انها مثل العدم فالإنسان في زمن الضياع يفقد توازنه وتصبح الحاجات مجرد قشور تتساقط لانها فقدت صلتها بوجوده، وهذا الانقطاع بين النفس في الداخل والأشياء في الخارج يقوم على حالة نفسية تطرد طل صلة وصل مع الغير، ففي الانفراد والتوحد تقيم النفس في عالمها كيانات جديدة لا ترى فيها سوى صورتها في كل اتجاه، وتجعل من ذاتها محوراً لعالم تتسع أبعاده كلما توسعت أعماق هذه الصور، فهي مثل النسيج الذي يجمع العديد من الجزيئات في مساحة واحدة، إنه عالم الانفراد والوحدة، وصوفية ترتقي بالروح إلى أعلى مدارج الصفاء .اما طلب الخيام من الله العظيم بإخراجه من هذا الوجود فهو الاعتماد النفسي الذي يوجد راحة في الذات المعذبة، تلك الذات التي تدرك ان نهاية الامر مهما سعى الإنسان للهروب منه او التمرد عليه لابد من الاستسلام له.[c1]تلك القصور الشاهقات البناء منازل العز ومجلى السناءقد نعب البوم على رسمها يصيح: اين المجد، اين الثراء[/c]ينظر عمر الخيام الى صروح المجد والعز، وغرور الإنسان في طلب الخلود ودوام ملكه على الأرض، وتجاهل انه على الأرض تكون الحياة امماً وازماناً، فلا الزمان يقف عند هذا القوي ويبقى هذا العظيم، فمجد اليوم قد يصبح خراب الغد، والقوة في الحاضر قد تسير إلى مهاوي الإنكسار في الآتي، والشاعر في هذه الرباعية يدخل طائر البوم، ذلك المخلوق الذي يرمز الى الشؤم والخراب ولا يسكن الا بين الاطلال وما هجر الانسان من منازل، وما صراخ هذا الطائر الا ترجمة لما في النفس من حسرة وألم على ضياع زمن المجد والثراء، ولا تقف حدود هذه الرؤية لدى الخيام عند فقدان الجانب المادي من الحياة، ولكن ضياع الجمال وغياب معاني اللذة جعل لكل شيء طعم التراب.[c1]وإنما الدهر مذيق الكروب نعيمة رهن بكف الخطوبولو درى الهم الذي لم يجئ دنيا الأسى لاختار دار الغيوب[/c]ينظر عمر الخيام الى صروف الزمن ومفارقاته، فلا يجد في الدهر الهموم والوجع ومعاناة تحرق الروح في نارها، وحتى نعيم الحياة ما هو إلا رهين في لعبة القدر لذلك التقلب والأهواء التي تدخل العقل في حالة ترنح، وتجعل الكيان يقف على أرضية متصدعة تنذر بان كل ماعلى الارض ذاهب الى زوال طالما الأقدار هي من تغير في هذه المشاهد من الزمن.ولو ادرك الهم هذا المصير لكان عالم الغيب هو ما يختاره ففي ذلك اللا مرئي يكون العدم افضل من هذه الدورة على الأرض حيث تصعد المعاناة بالوجع الإنساني الى مستويات تذوب فيها الروح في نور احتراقها.[c1]المرجع/ ديوان احمد راميالناشر/ دار العودة بيروت[/c]
|
ثقافة
صوفية المعاني أمام عذاب الكلمات في رباعيات عمر الخيام
أخبار متعلقة