في زيارتي الرسمية إلى ألمانيا الشرقية (سابقاً) للمشاركة في احتفالات الشعب الألماني بمناسبة عيده الوطني، كان يرافقني هناك إحدى الشخصيات البارزة آنذاك بتكليف رسمي وكان شخصاً رزيناً ويتمتع بثقافة فلسفية واسعة، وفي إحدى رحلات التنزه والتعرف على بعض المعالم دار بيننا حديث طويل حول بعض الأمور الغيبية حاول خلاله إقناعي بوجهة نظره القائمة على النظرة المادية للحياة التي تحكمها قوانين الطبيعة فحسب، وقد وجهت إليه بعض الأسئلة منها:- هل وجودك في هذه الحياة وخروجك منها باختيارك؟فأجاب : (لا).- هل لك دور في وجود الغرائز الفطرية والرغبات الدنيوية التي تدفعك إلى الحياة دفعاً لإشباع تلك الغرائز والرغبات؟فأجاب : (لا).- هل تنكر حقيقة الضمير الذي يسعدك إن أحسنت ويعذبك إن أسأت؟فأجاب : (لا).وبعد النقاش المستفيض انتهى الحديث بإقراره بوجود القوة العاقلة الآخذة بنواصينا والحاكمة على ضمائرنا وأسماها (سلطان الحياة).وعلى الرغم من مرور فترة طويلة من الزمن على هذا الحديث إلا أن ذكراه مازالت باقية، وكلما تذكرت الصديق الألماني وهو يردد: (إنه سلطان الحياة) تتولد في عقلي ووجداني الكثير من الخواطر، سأحاول هنا تسجيل بعضٍ من تلك الخواطر لعل الله تعالى يحقق فيها الفائدة سائلاً إياه سبحانه أن يمنّ علينا بالمزيد مما يقربنا إلى معرفته وبالعمل الدؤوب للفوز برضاه.- من الحقائق البسيطة التي يدركها كل إنسان أنه في حياته محكوم بالضرورات الآتية:[c1]* [/c] ضرورة إشباع غريزتي المأكل والمشرب لضمان استمرار الحياة.[c1]* [/c] ضرورة إشباع غريزة المنكح التي تحقق له لذة ومتعة جسدية من جهة، وتحقق استمرارية النسل من جهة أخرى.[c1]* [/c] ضرورة توفير الملبس والمسكن للوقاية المناخية وتحقيق السكون والراحة.[c1]* [/c] ضرورة توفير الحماية من الأخطار الطبيعية والإنسانية.وبهذه الضرورات يشترك الإنسان مع بقية الحيوانات (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم) "28 الإنسان"، ولكنه يمتاز عليها بما أودع الله فيه من القدرات والطاقات الجسمية والعقلية والوجدانية التي تمكنه من تحسين وتطوير أسلوب حياته في جميع المجالات المادية والإنسانية إن هو فعل تلك القدرات والطاقات ووجهها التوجيه الصحيح : (ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) "70 الإسراء"، وإن المتأمل المتمعن والباحث المدقق سيصل في النهاية إلى اليقين بحقيقة أن الله وحده هو الخالق والحاكم على كل شيء: (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) "24 الحشر".[c1]* [/c] خلق الله تعالى في الإنسان مراقباً ذاتياً داخلياً حاكماً يقيم سلوكياته الفكرية والوجدانية والعملية، ويسمى هذا الحاكم (الضمير) الذي يجعل الإنسان يعيش أسير عاملين لا إرادة له في وجودهما ولا مفر له من سلطانهما، ويتمثل الأول في الشعور بالسرور والارتياح إذا أحسنا واجتهدنا في السعي نحو ما يرضي الله تعالى، ويتمثل الثاني بالشعور بالألم والحسرة والندم إذا أسأنا وداومنا على ما يغضب الله تعالى : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) "36 يونس"، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) "128النحل"، (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) "40 غافر"، (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة) "27 يونس".وان الذين يستجيبون لنداء الضمير لفعل الخيرات ويتألمون من وخزه بعد فعل السيئات أولئك هم أصحاب الضمائر الحية والقلوب السليمة الفائزون بلقاء الله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) "89 الشعراء".وأما الذين لا يعيرون اهتماماً لنداء الضمير ولا يشعرون بوخزه فأولئك هم أصحاب الضمائر الميتة والقلوب الغافلة الخاسرون في الدنيا والآخرة: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون إنهم يحسنون صنعا) "103 - 104 الكهف".[c1]* [/c] كثيرة تلك الأحداث والوقائع التي يتعرض لها كل إنسان يكاد بعضها يؤدي به إلى الموت المحقق، ويكاد البعض الآخر يؤدي إلى عواقب سيئة، ولكن ينجو الإنسان دون أن يصيبه أي أذىً مما يؤكد وجود قوى خفية تحفظ الإنسان من كل ما قد يخل بالتوازن في الحياة الإنسانية فيغلب عليها طابع العبثية : (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) "11 الرعد"، (إن كل نفس لما عليها حافظ) "4 الطارق"، ومن أمثلة ذلك التعرض لبعض حوادث السير السيئة والتناول عن جهل أو بالخطأ لبعض المواد الخطيرة أو الضارة والتعافي من أمراض خطيرة والنجاة من معارك قاسية ومريرة.كما أن هناك خصائص إنسانية ينبغي على كل إنسان التفكير فيها باستمرار وبعمق وبجدية ولا يجعل معايشته الدائمة لتلك الخصائص تحول بينه وبين التفكير فيها فيغفل حقائق إيمانية توصل إلى اليقين بالخالق الواحد القائم على كل شيء والحافظ لكل شيء: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) "42الأنبياء"، ومن أمثلة تلك الخصائص النوم، والعمليات الغذائية داخل الجسم الإنساني فهذه لا سلطان ولا إرادة للإنسان فيها وما يحدث خلالها من أمور وأحوال حسنة أو سيئة.أيضاً هناك مواقف لا يخلو منها إنسان تتمثل في مواجهته لمشكلات أو ظروف بسيطة وسهلة يمكنه معالجتها والتخلص منها بيسر ولكنه يراها من أصعب المشكلات وأشد الظروف ويعيش حالة من التخبط واليأس والضيق ، والعكس تماماً حين يواجه مشكلات أو ظروفاً قاسية وصعبة ويعيش حالة من التعقل والهدوء والأمل بالفرج وإدراك هذه الحقيقة يؤكد حاجة الإنسان الدائمة إلى رعاية الله وعنايته : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) 36 القيمة .من إيماني بسلطان الحب الذي يحبب إلى الشيء ويسخرني له اختياري ، والذي يكره إلى الشيء ويسلطني عليه أو ينفرني منه بغير اختياري ، من إيماني بهذا السلطان القاهر فوق العباد علمت ان الله هو وحده الحاكم والمسيطر على القلوب ولا حاكم غيره .ومن إيماني بموهبة العقل الذي يذكرني بما نسيت من صور الماضي وأحداثه والذي ينبئنني بما اجهل من عواقب الأمور ونتائجه المستقبلية ، من إيماني بهذه الموهبة وهذه الهداية التي لا تفارقني ساعة واحدة من ليلي أو نهاري علمت أن الله وحده الهادي لكل شيء وأنه هو واهب العقول وسالبها .بواسطة ما خلق الله فينا من نار الشهوات التي يحكمنا ويحركنا بها جسمياً بغير اختيارنا ، وبواسطة ما خلق لهذه النار من الغذاء والماء والهواء بواسطة هذين العاملين يبني سبحانه وتعالى أجسامنا التي هي خلاصة حياتنا الأرضية .وبواسطة ما خلق الله فينا من نار العواطف التي يحكمنا ويحركنا بها نفسيا وفكرياً بدون اختيارنا ، وبواسطة ما خلق لهذه النار من روح الأمل ومن روح الإيمان والالتزام بواجب العمل بواسطة هذين العاملين يبني سبحانه وتعالى أرواحنا التي هي خلاصة جهودنا الفكرية والعملية ، ومن هذه الخلاصة الروحية يأتي الإيمان بحقيقة ما يبقى من دنيانا وعظمته في عالم الخلود وحقيقة ما يفنى منها وتفاهته إذا لم يستخدم فيما يرضي واهب القوى والحاكم عليها وفي ما ينفع الصالح العام الذي ينعم ويسعد به الفرد والمجتمع سعادة مادية وروحية .وهكذا فإن ما سبق يمثل الشيء البسيط والقليل جداً من الحقائق العديدة التي لا تدع مجالاً للشك بحقيقة ( سلطان الحياة ) كما وصفها الصديق الألماني والتي تعبر بلا ريب عن رفض العقل والوجدان والفطرة السليمة للإنكار بحقيقة الخالق الواحد الحاكم العادل سبحانه وتعالى ولي الهداية والتوفيق والقائل : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) (1) الأنعام- صدق اللّه العظيم.صنعاء - 26 رمضان 1427هـ .[c1]* نائب رئيس مجلس قيادة الثورة نائب رئيس الجمهورية الأسبق -أطال اللّه في عمره-.[/c]
سلطان الحياة
أخبار متعلقة