انتشرت فتاوى فقهية تحرّم وتكرّه متابعة وتشجيع الفرق المشاركة في مونديال ألمانيا 2006، بحجة أنها تصرف الناس عن العبادة، إلى أن وصلنا إلى حكاية تكفير اللاعبين السعوديين الخمسة، لسجودهم لزميلهم بعد تسجيل هدفه، وطبعاً كان السجود لله وحده (وليس كما زعمت منتديات الانترنت) كرد فعل تلقائي بعد إحراز التقدم، وكتقليد انتشر بين الفرق الكروية المسلمة، ولا غضاضة فيه، ومع ذلك، وحتى هذا التصرف الطبيعي من العبد لربه لم يسلم من التحريف والتأويل على غير محمله، فهل يوجد فعلاً من يؤمن بمثل هذه الافتراءات وما شابهها ويعتقد بها، أم هي لمجرد الاستفزاز والتواجد؟ وبهذه المناسبة يحضرني موقف صادفني في إحدى الجامعات السعودية، حين تحدثت في جمع من النساء عن بعض حقوقنا وكلي ثقة بتأييدهن للمنطق، لأفاجأ بهجوم محكم من قبل عدد لا بأس به، الأمر الذي فُسر لي فيما بعد على أنه رفض لشكلي الخارجي واختياري لألوان ملبسي، وبالتالي الاعتراض على كل ما سأتفوه به أياً كان، مع العلم أن تاريخ الحدث كان سابقاً لكتابتي في الصحف، ولكني وعند تأملي في من تشدقن استنكاراً، وجدتهن وقد اشتركن في ارتداء الألوان الغامقة بأسلوب يكاد يكون موحداً، وفي تصفيف الشعر وتركه على سجيته بلا تهذيب يذكر، وفي أمور كثيرة من أبسطها طريقة الكلام ونغمة الصوت، دع عنك التقاء الأفكار والحجج، ولا أدري كيف تستقيم الحياة مع كل هذا التعقيد والتحريم على النفس!وانطلاقاً من الفكر النقدي الحر، الذي ينادي به قرآننا الكريم، ولحاجتنا إلى التذكير بالتأكيد الرباني لنا بالنهل من متع الدنيا وزينتها، دعونا نعود إلى آية الشهوات الست الرئيسية في سورة آل عمران 14، والتي ذكر فيها أن "النساء" هي الشهوة الأولى، فهل كان المقصود بهن أزواج الرجال؟ لقد بدأت الآية بقوله تعالى "زين للناس.." وليس زين للرجال، ومن المعروف أن لفظة الناس تضم الذكور والإناث، فهل تقول الآية إنهما يشتركان معاً في اشتهاء النساء؟ تفسير لا يعقل، وخاصة أن الغريزة الجنسية لا تدخل في الشهوات التي تعنيها الآية تحديداً، ثم إذا كان المعني بالنساء أزواج الرجال فقد وردت في الشهوات مع الخيل المسومة والأنعام بأنواعها، فهل تعامل المرأة كالغنم والبقر؟ وبما أن الطعام والشراب والبيت والسيارة والحذاء من متاع الدنيا، فهل يعني هذا أيضاً وبناء على ما انتهت إليه الآية في قوله "ذلك متاع الحياة الدنيا..." أن المرأة شيء من الأشياء؟ فإذا أتينا إلى كلمة "البنين" والمذكورة في الآية، فهل تعني الذكور من الأولاد؟ فإذا كان الأمر كذلك، فمعناه أنهم أشياء أي "متاع" أيضاً، فهل يصح؟ وكيف يكون عطفهم على الخيل والغنم؟ ولا نقول في ذلك كله إلا أنه عند ذكر لفظتي النساء والبنين في القرآن، فإنما يجب النظر إلى سياق الآية، كي نفهم المعنى كما يقتضيه العقل والموضوع والمطابقة مع الحقيقة، فعندما تأتي النساء أزواجاً للرجال تكون واضحة لا لبس فيها كقوله تعالى ".. إذا طلقتم النساء.." أو قوله "اصطفى البنات على البنين" وهكذا، وعليه، نقول لقد جاءت "النساء والبنين" في آية الشهوات بالمعنى المجازي للكلمة، أما المعنى الحقيقي فهو:اشتقت لفظة النساء في اللسان العربي من نسأ، والنسيء هو التأخير، قال تعالى "إنما النسيء زيادة في الكفر.."، ومما يدلنا على فهم الأوائل لهذا المعنى قولهم إن الله خلق آدم ثم خلقت منه حواء، أي أن الأنثى ظهرت في الوجود متأخرة عن الذكر، ولهذا سميت الإناث بالنساء، ومنه يمكننا إطلاق ذات المصطلح على كل شيء جاء متأخراً، وهنا نعود إلى معنى النساء، الشهوة الأولى في الآية، وتعني المتأخرات من المتاع (الأشياء)، أو ما عرف في لغتنا الدارجة باسم "الموضة"، وهو ما ينسجم مع الفطرة البشرية للإنسان الذي ما فتئ يشتهي الجديد في اللباس والسيارات والأثاث.. الخ. والنبي عليه الصلاة والسلام حين قال "حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة"، فُهم قوله على أن النساء هن أزواج الرجال، وليس على أنها شهوة التجديد في الأشياء، والتي جاءت بمعنى التأخير في آية سورة النور 31 في قوله ".. أو نسائهن.." أي ما تأخر عن المذكورين في الآية من أحفاد وفروع مهما تدرجوا ونزلوا. باختصار، هي الشهوة الكامنة وراء التقدم الصناعي والتجاري والتي لولاها لانخفضت معدلات الإنتاج، لعدم توفر الرغبة في استحداث الجديد واقتنائه.أمّا لفظة "البنين" فقد جاءت من الأصل "بنن" وتعني اللزوم والإقامة، وهي صفة الأبنية والبنيان، وقد أتت في قوله تعالى " أمدّكم بأنعام وبنين"، حيث ربط البناء بتذليل الأنعام، فلولا تذليل الأنعام لما استقر الإنسان وبنى له مسكناً، والبنون في قوله "المال والبنون زينة الحياة الدنيا.."، تعني الأبنية من الإقامة وليس الذكور من الأولاد، وبما أن المال من المواد القابلة للتحويل والنقل، والبنون أي الأبنية من المواد غير المنقولة، فنلاحظ كيف تطابقت هذه الآية مع آية الشهوات التي تعني الأشياء المنقولة وغير المنقولة معاً. ونحن إذ نحاول إعادة النظر في بعض التفاسير على ضوء النظم المعرفية الحديثة، فذلك لا يعني أبداً التشكيك بذكاء أو بتقوى أو بحسن نوايا سلفنا الصالح، ولكن بما أن الوحي ثابت وفهم الوحي الذي هو نتاج إنساني غير ثابت، فمن حقنا تحرير مفاهيمنا من سياقاتها الماضية، ودمجها في روح عصرنا حتى نعرف كيف نحيا بلا خوف أو تأجيل أو شعور بالذنب. إذ متى عرفنا قيمة الحياة والغاية من استخلافنا فيها، فلن نقرأ في صفحة واحدة من صحفنا خبراً يقول بتبرع كبير مؤسسي شركات الحاسوب والبرمجيات العالمية بيل غيتس، بثروته البالغة 50 مليار دولار لأعمال مؤسسته الخيرية، في مقابل خبر آخر بتفجير أحدهم لنفسه داخل مسجد في بغداد حاصداً معه11 مصلياً و25 جريحا.* نقلاً عن صحيفة (الشرق الأوسط)
حتى الكرة لم تسلم من التكفير!
أخبار متعلقة