عتبي على برنامج " واجه الصحافة" لأنه لم يترك هدى غالية تتكلم كما تريد. عتبي على الإعلام الفلسطيني وكثيرا ما أعتب عليه. فهل تعودنا على اختزال القضايا وأصبحنا ننفض عن أنفسنا "غبار التهم " وكأننا نحن المعتدون؟.حين سقط أفراد عائلة غالية ومن معهم نظم برنامج " واجه الصحافة" لقاء مع الناجية الوحيدة من العائلة الطفلة هدى غالية. وتحدث المتحدثون جميعا وألقوا خطبهم الطويلة نسبيا ثم أعطوا الكلمة للطفلة بطريقة أملوا عليها ماذا تقول حين قال مدير الحلقة: لن أسألك ماذا حصل ولا ماذا رأيت ولكن ماذا تريدين أن تقولي للعالم ، لأطفال العالم....الخ فقالت هدى: "بقولهم يوقفو القذايف واحنا بدنا نلعب مثلكم".استفزني المشهد حد الدموع. والدموع أصلا مستنفرة ومستفزة طيلة الوقت. لماذا لا يتركونها تتكلم، وهل جمعوا الجمهور والمشاهدين والصحفيين الذين أرادوا أن يسمعوا هدى وقصتها ليسمعوا جملتين كان واضحا أنهم لقنوها إياهما تلقينا. لماذا اختزلوا مأساوية الحدث وجردوه من أبعاده الإنسانية بهاتين الجملتين؟ تساءلت والحضور : لو أن ما جرى لعائلة غالية جرى لعائلة يهودية هل كانت تختزل قصتها كما اختزلت قصة هدى بهذه الطريقة التعسفية؟ سيتحدثون عنها حتما وبتفاصيل التفاصيل حتى لو مر عليها خمسون عاما. لماذا إذن "نمسخ" قضايانا بهذا الشكل؟ وكيف نريد العالم أن يسمعنا ويهتم بقضايانا؟ حين تعلق الأمر باليهود " ضحايا النازية" _ ولست هنا بصدد مناقشة صدقية أو عدم صدقية تلك الروايات_ لكن ما أردت قوله أننا ما زلنا وما زال العالم كله يسمع قصصاً وحكايات لا ذنب لأي فلسطيني فيها ومع ذلك دفع الفلسطينيون ثمن "نازية" النازية وما زالوا يدفعون.أعود بالذاكرة بضع سنوات إلى الوراء لمذكرات كتبتها ممرضة من يهود أوروبا استطاعت ابان الحرب العالمية الثانية أن تصل إلى مصر وتعمل في المستشفى الألماني ، وألتمس العذر من القاريء لأني نسيت اسم الكتاب واسم الممرضة كاتبته. وبالرغم من أن الممرضة لم تعمل في التمريض حسب مذكراتها بقدر ما عملت على تهريب اليهود من أوروبا إلى فلسطين عبر مصر وتحديدا عبر ميناء الاسكندرية. فإنها تفصل قصص " الضحايا " من اليهود لتبرر قدومهم إلى فلسطين بطريقة وأسلوب ولغة كنت أنا الفلسطينية أكاد أذرف الدموع معها وأتعاطف مع قضيتها التي حتما لن تقوم إلا على أشلائي وأنقاض بيتي. ترى هل دماء هؤلاء اليهود أغلى وأحلى وأهم وتستحق احترام العالم وانحناءه أمام قدسيتها مهما مضى عليها من دهور؟ ومن الذي يصنع مثل هذه الأوهام؟ ومن الذي يساهم في تسويقها وتحويلها إلى " حقائق" .لا بأس يا إعلاميينا الفلسطينيين أن نتعلم من أعدائنا أساليبهم وكيف يخاطبون العالم. هناك فارق بيننا وبينهم ، أننا لسنا بحاجة لاختلاق الحكايات الإنسانية ، فهي حقائق واقعة. بينما هم يختلقون القصص ويقلبون " الآيات" كما فعلوا بملصق محمد الدرة في كندا والولايات المتحدة حين ألبسوه " طاقيتهم". أرادوا أن يطوفوا العالم بهيكل باص محترق ليقنعوا العالم أنهم ضحايا الإرهاب الفلسطيني، ونحن ما زلنا نطرح قضايانا ونخاطب العالم بخجل. دعوا هدى غالية تصرخ، دعوها تواجه الصحافة وتواجه العالم بأسره ، بل دعوها تصرخ في وجهه. لا تكتموا صرختها ولا تختزلوا كابوسها الذي سيلاحقها طيلة عمرها بكلمة " شعارية" نريد أن نلعب مثلكم. لست أشك في رغبة هدى ورغبة كل أطفال فلسطين بل ورغبتنا نحن الكبار في اللعب والتعويض عما حرمنا منه. ولكن ما أرادت هدى أن تقوله كان أكبر بكثير مما " قولوها" إياه.لا نريد لشهدائنا وجرحانا وللضحايا من كل صنف ونوع رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا أن يتحولوا إلى أرقام كرقم في البورصة أو أرقام مربعات الكلمات المتقاطعة. لا نريد أن ندمن لغة الدم ، ولا أن نصل إلى " ديجيتالية" الموت، فوراء كل شهيد قصة ووراء كل جريح بيت يئن، ووراء كل بيت يهدم أسر تتشرد . أما آن الأوان أن نمنح إنسانيتنا ما تستحق من احترام حتى نستطيع مطالبة الآخرين باحترامها؟ فاصرخي يا هدى غالية ، واصرخي حتى تنتفض رمال الشاطيء هلعا ، اصرخي حتى يرتفع الماء في البحر وتردد صدى صرخاتك الأمواج. كان حريا بإعلامنا أن يجول العالم بهذه الصورة حتى تختزنها ذواكر العالم الذي تعود على موتنا الأرخص من المجان. كان حريا بهذه الصورة أن تهز العروش بينما نحن في زمن لا تهتز فيه الضمائر.
صرخة ((هدى)) كافية لهز العروش ولم تهز الضمائر
أخبار متعلقة