أكثر شيء يقتل الفهم، هو تكرار الأجوبة الجاهزة. أكثر فعل يدفن الحقيقة في رماد الجهل هو ترديد العبارات المحفوظة.هذا ما شعرت به، وأنا أقرأ بعض التعليقات والمداخلات في الصحافة السعودية، بعد وقوع المواجهة الأمنية الأخيرة في حي النخيل شمال العاصمة الرياض، بين خلية تابعة للقاعدة وبين قوات الامن السعودية. هذه المواجهة التي تكشفت عن انها مرتبطة بخلية كبرى تمتد من حفر الباطن الى الرياض، من سعوديين وغيرهم.مواجهة النخيل، أو معركة الفجر، كما سميت نسبة لوقت حدوثها، كانت خاطفة وحاسمة، قتل فيها ستة من أعضاء الخلية، وأصيب سابع، وقتل رجل أمن، وأصيب 17 من زملائه، واعتقل اثنان ممن لهم ارتباط بالخلية، حسب بيان الداخلية.أن يقال ان هذه الضربة دليل على قوة أجهزة الأمن السعودية، ودقة احترافها، وامتلاكها لزمام المبادرة مع الإرهابيين، فهذا صحيح، ولا جدال فيه البتة، وهذا نتاج خبرة وتجربة ثرية، وحصاد التراكم العملي في مواجهة الخلايا الإرهابية منذ سنوات، أي منذ بداية المعركة مع الإرهاب الأصولي في السعودية في مايو 2003م لا، بل قبل ذلك منذ بوادر العمل الإرهابي في مثل هذا الشهر، يونيو 2002م، عبر قتل البريطاني "سايمون جون"، الموظف في البنك السعودي الفرنسي، وفي حي النخيل نفسه، من خلال تفجير سيارته بعبوة ناسفة.إذن، فالنجاح الأمني هو تطور طبيعي، واستفادة مثالية، تسجل للأمن السعودي بلا ريب.ولكن أن يقال ان عملية حي النخيل هذه، هي دليل على أن الارهابيين على وشك الانتهاء، وأن: "عدهم التنازلي تسارع، وسيستغرق التعامل معهم بعض الوقت حتى يتم استئصالهم نهائيا"، كما قال اللواء صالح الزهراني، رئيس اللجنة الأمنية السابق في مجلس الشورى السعودي، والعضو الحالي بنفس اللجنة، فهذا ما نختلف معه جذريا، ونعتبر أن كلام اللواء الزهراني يدخل في عداد الأماني، وليس في إطار التحليل الواقعي.المشكلة هي أن يأتي هذا التمني من رجل يفترض به انه ينطلق من منطلقات احترافية بحتة، وليس كما يتكلم البعيدون عن الجو الامني من العامة. والأغرب أن هذا التطمين اللامطمئن، لا يمثل سياسة سعودية عليا، أو رؤية كبرى تحكم سياسة المواجهة مع الإرهاب في السعودية، فالملك عبدالله بن عبدالعزيز كرر أكثر من مرة أن المواجهة مع الإرهاب مستمرة، وأن الدولة مستعدة لمواجهة تمكث عقودا من السنين، ووزير الداخلية، الأمير نايف، قال بعد عملية حي النخيل، إنه لا يجوز القول بانقضاء الخطر الارهابي.وكل متابع ومراقب قرأ الحالة في السعودية، أو في بعض الدول التي أصابها شرر من نار الإرهاب، وعرف "جذور" ثقافة الإرهاب، يقطع بأن "الورم" مازال شرسا، ومقاومته للعلاج مابرحت قوية.. وليس أدل على ذلك، من طلوع رأس الورم كلما قطع جزء منه، منذ تفجيرات الرياض في نوفمبر 1995م إلى عملية النخيل الأخيرة، ولا ندري عن المقبل القريب.أن يخرج اللواء الزهراني، ومن قيل انهم خبراء، ليقولوا لنا إن الضربة الاستباقية لـ (خلية النخيل)، بداية النهاية للإرهابيين (جريدة "المدينة"، الأحد 25 يونيو الحالي)، فهذا نوع من خديعة الذات، و"النوم في العسل"، والتفكير بشكل رغبوي.لكن ربما يقل الاندهاش، وينكمش الاستغراب، إذا عرفنا أن هذا النوع من الإشادة الخارجة عن إطار الواقع، داء متفش يفتك ببعض الموظفين، أو الرسميين، أو من يتوقعون أن مثل هذا الكلام هو الذي يرضي المسؤولين في الدولة، أو يكون ذلك الكلام، مثلما قلنا آنفا، نوعا من التفكير الرغبوي، كل هذه الدوافع المتنوعة، هي التي تخلق هذا "الغلط"، وتبعد بوصلة تفكيرنا عن "الصح".هذا النوع من التعاطي مع حرب الإرهاب، يؤخر الحل، لا بل انه يصبح إسهاما، في تعميق المشكلة بدل أن يصبح عودا في حزمة الحل!أثناء تأملي في كلام اللواء الزهراني، ولماذا يفكر بعضنا بهذه الطريقة الرغبوية، اكتشفت أنه هو من قال في 21 مارس الماضي في محاضرة بنادي ضباط قوى الأمن بعنوان: "البعد الخارجي للإرهاب في السعودية"، ان تنظيم القاعدة مخترق من قبل الصهيونية العالمية، التي تمكنت من التغلغل في القيادات العليا للتنظيم بواسطة الجماعات التكفيرية المصرية التي غادرت إلى أفغانستان إبان حكم طالبان.وساق الزهراني عددا من القرائن التي "تثبت" فرضياته المثيرة، كان أولها، عملية اغتيال عبد الله عزام "ملهم الأفغان العرب". وأشار الزهراني إلى أنه تم اغتيال عزام لأنه كان ينوي نقل الجهاد من أفغانستان إلى فلسطين من قبل عملاء الموساد، وأشار إلى أن تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر تدل على أنه يصعب على تنظيم كالقاعدة تنفيذها إلا بوجود مساعدة من بعض الدوائر الصهيونية داخل أمريكا.. وأفكار أخرى من هذا النوع.. (جريدة "الوطن" السعودية،22 مارس 2006).والحق أن الصهيونية أضرت بالعرب والمسلمين كثيرا، وقد اغتصبت أرض فلسطين وشردت شعبها، ولديها خطايا وآثام كثيرة ارتكبتها ضد العرب، ولكن ليست كل مشكلات العرب بتخطيط صهيوني، وإلا لأصبحنا مصابين بمرض نظرية المؤامرة، ولصارت ظاهرة القاعدة حجرا شاردا ضل طريقه الى أرضنا من الفضاء الخارجي.. وهذا هو عين الخداع الذاتي. فالقاعدة، يا سعادة اللواء، من نبت أيدينا، دعك ممن استفاد من نتائجها لاحقا، ودع الصهاينة جانبا، الذين قد يكونون استفادوا "عمليا" من القاعدة، ولكن هذا أمر آخر يختلف تماما عن التخطيط الواعي الذي يشير إليه كلام الزهراني. ليست القاعدة، ولا فكرها، ولا جذور خطابها الثقافي، إلا جانبا من عللنا الفكرية والاجتماعية والسياسية، ويكفي هذا الرمي المزمن لعللنا وأمراضنا على شماعة الأعداء أو الآخرين.وحتى نستفيد أكثر، أحيلك يا سعادة اللواء فيما يخص مقتل عبد الله عزام إلى كلام صديقه الدكتور موسى القرني، في لقاء له مع جريدة "الحياة"، نشر في 9 مارس الماضي، قال فيه وهو يصف تفاصيل مقتل عبد الله عزام، حيث كان معه قبل قتله بليلة، وكان على موعد معه نهار اغتياله، لإصلاح ذات البين بين فصائل الأفغان، قال: "نحن صراحة في تلك الفترة، كانت أكثر تحليلاتنا تميل إلى أن وراء هذا الحادث، الموساد الإسرائيلي، بالتعاون مع الاستخبارات الأميركية، لكن بعد فترة، ظهر تحليل يقول إنه ربما أن الذي كان وراء ذلك هم جماعة الجهاد المصرية، لأنهم كانوا يكرهون الشيخ عبد الله عزام".إذن الشيخ القرني، عرف فيما بعد الحقيقة، أو اتجه بشكل صحيح للإجابة بنهج غير تقليدي على السؤال، ولم يصنع كما فعل اللواء الزهراني، الذي كرر الاتهام التقليدي بعد سنوات وسنوات من مصرع عزام...إنها أزمة حقيقية تلف نمط التفكير لدينا، تفكير يميل للإجابات المعلبة والمكررة، لأن المطلوب من المحلل الجاد والحقيقي هو ألا يكرر الموجود أمامه من كلام بشكل يرضي رغبات البعض منا، بل أفضل شيء يصنعه هو أن يتجرد من مسبقاته، إن استطاع، ويتصدى لموضوعه بدون معلبات جوابية، المطلوب هو تفكيك الواقع، الباحث هنا يجب عليه ألا يسعى للإرضاء، بل عليه أن ينثر التساؤلات على باب الازمات. ويصنع جدلية الهدم وإعادة البناء.نقول كل هذا، حتى لا نكون كمن يكذب ثم يصدق كذبته، وتصبح العاقبة وخيمة، إذا ما طوقتنا أجنحة الأزمة من جديد، ونحن كنا نحسب أنا نحسن صنعا. الصراحة راحة، وهي صابون القلوب كما يقال، وخير لنا أن نكتشف أن لثقافة الإرهاب عروقا في شجرة مجتمعنا، تمرض عقولنا، وتصيب مستقبلنا بالكساح، فخير لنا أن نكتشفها ثم نعالجها، من أن نقول: لا بأس بنا، وما لدينا هو بضعة شباب أغرار، وثقافتنا بخير، وتعليمنا بخير، وإعلامنا بأحسن حال، والصهيونية "اللعينة" هي التي أوجدت لنا القاعدة، وإلا فلولا ذلك لعشنا الأفراح والليالي الملاح... أيها السادة، كفى نوما، واخرجوا من سجن الإجابات الجاهزة... هذا سينقذنا كلنا.* نقلا عن / صحيفة ( الشرق الاوسط ) اللندنية
سجناء الجواب المكرر ...!
أخبار متعلقة