غضون
* لا يكفي أن نقول عن الثأر إنه قتل خارج القضاء أو تجرمه الشريعة والقانون .. هو حقاً كذلك .. لكنه في الوقت نفسه ثقافة تعمقت لدى المجتمعات القبلية منذ القدم، وبموجب هذه الثقافة يتحرك بعض أفراد القبائل للثأر من القاتل أو أحد أقربائه الأبرياء كما كان يفعل أسلافهم في الجاهلية دون أن يشعروا بأي حرج ديني، بل يرى مرتكب الثأر أنه قد فعل الصواب، حتى لو كان المقتول ثأراً متعاطفاً مع قضية قاتله من قبل . المهم أن يقتل شخصاً ما، ولو قتل أكثر من شخص سيكون ذلك مدعاة للزهو !.. لذلك نقول إن واحداً من عوامل نجاح مكافحة الثأر في المجتمعات القبلية هو التوجه نحو تلك الثقافة وانتزاع مركباتها الشريرة والظالمة من خلال برنامج مكثف للتوعية يتكون من عناصر الثقافة المحلية والدين والقانون وحقوق الإنسان.* وللتدليل على ما سبق وقع بين يدي حكم قبلي حول قضية متهم فيها شخص يدعى عبد الناصر عبد الكريم بقتل شخص آخر، ولأن عبد الناصر هذا اختفى، واختفى معه أخوه الذي تكفل بإحضاره، ولأن الشخص الذي تطوع بالوكالة عنهما تفاعل خير لإنهاء المشكلة عجز عن إقناع أولياء الدم بقبول الدية، لجأ الطرفان إلى مجموعة من شيوخ القبيلة وصاغ هؤلاء الأخيرون قرار تحكيم يقول إن على فاعل الخير ذاك أن يحضر المتهم عبد الناصر وأخياه أو يبلغ بأي معلومات عن مكان تواجدهما، وأن أولياء الدم مخولون بقتل القاتل وأخيه إذا أمكنهم ذلك .. لقد صيغ هذا الجرم في وثيقة تضمنت أيضاً بنوداً لتفكيك أوصال أسرة المتهم بالقتل وأسرة الضحية.. وأزعم أن الذين صاغوا قرار التحكيم لم يلاحظوا إنهم ارتكبوا جرماً بل فعلوا ما تتوجب عليه أعراف القبيلة.. لذلك نقول إن مكافحة الثأر ينبغي أن تمتد أولاً إلى تلك الأعراف التي تتعارض مع القانون وكل شرائع الأرض والسماء في هذا العصر.* الشيء الأسوأ في هذه القضية إن حكم المحكمين تم تعميده رسمياً لدى محكمة الاستئناف في المحافظة وأودعت نسخة منه في ملفاتها رغم إنه حكم ينطوي على تحريض على القتل خارج القضاء وقتل البريء بذنب المسيء.. بينما كان على القاضي أن يتحرك فوراً بمجرد أن يقع ذلك الحكم بين يديه.. أن يتحرك لمنع جريمة ومساءلة المحكمين الذين سوغوا القتل، وأن ينقل القضية من بين أيدي المشايخ والأعراف القبلية إلى إطارها القانوني أو إلى القضاء وسلطات الضبط القضائي..