لماذا هذه الحملة الشرسة؟
الحملة التي شنتها بعض الأطراف السياسية ضد التفويض لم تكن مفاجئة. فكل حدث يعيد ترتيب موازين القوة يثير هلع المستفيدين من بقاء الوضع القائم. هناك قوى اعتادت الاستثمار في “الجنوب المؤجل” كملف تفاوضي لا كحق سياسي واضح. إعلان نية استعادة الدولة ينسف سرديات قديمة، ويُسقط أوراق ابتزاز سياسي وإعلامي ظلت تُستخدم لسنوات باسم “الوحدة” أو “الشرعية” أو “المرحلة الانتقالية التي لا تنتهي”.
الهجوم لم يكن على الخطوة بحد ذاتها، بل على ما تمثله: خروج الجنوب من مربع التوظيف إلى مربع الفعل، ومن دور الضحية إلى موقع صاحب القرار.
التهويل والتشكيك.. سياسة الخوف
رافق التفويض سيل من المبالغات، تارة بتصويره كإعلان حرب على الإقليم، وتارة كقفزة في المجهول أو مخالفة للإرادة الدولية. هذه اللغة ليست جديدة؛ إنها ذاتها التي واجهت كل حركات التحرر. التشكيك لم يستهدف مضمون التفويض بقدر ما استهدف ثقة الجنوبي بنفسه، ومحاولة إقناعه بأن العالم لن يقبل به، وأن الجيران سيتضررون، وأن الاقتصاد سينهار.
الإرادة الدولية وتشابك المصالح
العالم لا يتعامل بالعواطف بل بالمصالح والاستقرار. والإرادة الدولية ليست نصًا ثابتًا، بل نتيجة توازنات تتغير وفق الوقائع على الأرض. ما تريده القوى المؤثرة هو شريك واضح، قادر على ضبط الأمن، وحماية الملاحة الدولية، وبناء مؤسسات مسؤولة.
من هذه الزاوية، لا يبدو الجنوب عبئًا بل فرصة. موقعه الجغرافي، وسيطرته على ممرات بحرية استراتيجية، وقدرته – إذا أُدير بعقلانية – على الإسهام في الاستقرار، تجعله رقمًا صعبًا لا يمكن تجاهله مهما ارتفعت أصوات الرفض.
القوة الحقيقية.. حجة الشعب
القوة لا تكمن في البيانات ولا في الاعترافات المسبقة، بل في حجة الشعب على الأرض. شعب حاضر، ممسك بأمنه، ومنخرط في مؤسساته، ومصمم على إدارة شؤونه بنفسه. هذه هي اللغة التي يفهمها العالم.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية طمأنة الجيران: الجنوب لا يتجه نحو القطيعة أو العداء، بل نحو شراكات متوازنة وأمن إقليمي مشترك، يحترم السيادة ويمنع استخدام أراضيه كمنصة تهديد. الاستقلال لا يعني الفوضى، بل وضوح المسؤولية.
الصعوبات والمعوقات
لا يمكن إنكار التحديات. فالدولة القادمة ستولد في بيئة إقليمية معقدة، وبإرث ثقيل من الحروب والاختلالات الاقتصادية وغياب البنية المؤسسية. هناك تحديات داخلية تتعلق بتوحيد الصف، وإدارة التنوع، ومحاربة الفساد، وبناء اقتصاد منتج.
الطريق لن يكون مفروشًا بالاعترافات السريعة، لكن التاريخ يثبت أن الدول لا تُمنح، بل تُنتزع بالوعي والعمل التراكمي.
احترام إرادة الشعوب
حق الشعوب في تقرير مصيرها مبدأ أساسي لا يسقط بالتقادم. تجاهل إرادة شعب كامل هو وصفة دائمة للصراع. الجنوب حين يطالب باستعادة دولته لا يفعل ذلك بدافع الكراهية، بل بدافع تجربة شراكة فشلت ووحدة تحولت إلى إقصاء. احترام هذه الإرادة هو المدخل الحقيقي للسلام.
مقومات الدولة القادمة
الدولة الجنوبية المنشودة ليست دولة شعارات، بل دولة مؤسسات: دستور جامع، نظام سياسي يضمن التداول السلمي، جيش وأمن مهنيان، اقتصاد قائم على الموانئ والاستثمار، إعلام مسؤول، وعلاقات خارجية متوازنة.
تفويض الرئيس عيدروس الزُبيدي ليس نهاية الطريق بل بدايته. هو إعلان نية واختبار للوعي الجنوبي قبل أن يكون تحديًا للآخرين. وبين التهويل والتشكيك، تبقى الحقيقة واضحة، بأن الشعوب التي تعرف ماذا تريد، وتبني قوتها بهدوء، تصل، مهما طال الطريق.
