فمن البحر الأحمر إلى سواحل الشام، تقف المنطقة أمام لحظةٍ فاصلة: إمّا أن تنزلق إلى صراعٍ جيوسياسيٍ طويل يهدّد التجارة العالمية واستقرار الملاحة، وإمّا أن تنجح في بلورة سلامٍ عادلٍ وشاملٍ يقوم على الإرادة الوطنية والتوازن الإقليمي.
منطقة تعيد ترتيب نفسها:
الهدوء الذي أعقب حرب غزة ليس سوى سكونٍ خادعٍ يسبق مرحلةً جديدة من إعادة التموضع. فالقوى الكبرى، من واشنطن إلى طهران، تعيد رسم خرائط نفوذها حول البحرين الأحمر والعربي باعتبارهما محورين حيويين في معادلة الردع والنفوذ.
وقد تمددت إيران عبر وكلائها في اليمن ولبنان لتعيد رسم ملامح الأمن الإقليمي، وتؤثر في مسارات التجارة الدولية التي تمرّ بأخطر الممرات البحرية على الإطلاق.
باب المندب: صدعٌ بحريّ في قلب العالم
لم يعد التحكم في مضيق باب المندب شأنًا يمنيًا أو إقليميًا فحسب، بل قضيةً عالمية بامتياز. فمليشيا الحوثي، الذراع الأكثر فاعلية في منظومة الردع الإيرانية، حوّلت جنوب البحر الأحمر إلى بؤرة ابتزازٍ وضغطٍ في مواجهة الغرب.
وفي ظلّ تزايد التهديدات للملاحة التجارية، استخدمت الحكومة اليمنية منبر الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة للدعوة إلى تشكيل تحالفٍ دوليٍ لحماية حرية الملاحة في البحر الأحمر — مبادرةٌ دبلوماسية تؤكد أن أمن الممرات البحرية بات أحد ركائز النظام الاقتصادي العالمي.
غير أن واشنطن ما زالت مترددة في الانتقال من مرحلة الضربات المحدودة إلى بلورة استراتيجيةٍ متكاملةٍ تجمع بين الردع العسكري والدعم السياسي الفاعل للقوات اليمنية الشرعية. هذا التردد أطال أمد الفوضى، وسمح بتحوّل البحر الأحمر إلى ساحة مساومةٍ وصراعٍ في آنٍ معًا.
من حلفاء متباينين إلى رؤيةٍ موحّدة
يكمن أحد أوجه الضعف في غياب التناغم بين الأطراف التي تتقاطع مصالحها في استقرار البحر الأحمر.
ومن هنا تبرز مسؤولية الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في العمل الجاد على توحيد أهداف الرياض وأبوظبي في اليمن، لأن غياب هذا التنسيق يجعل الجبهة المناهضة للحوثيين هشّة، ويُبقي الحكومة الشرعية عاجزة عن تحويل التعاطف الدولي إلى مكاسب ميدانية حقيقية.
وحين يتحقق هذا التناغم بين السعودية والإمارات، يصبح على الرباعية الدولية — التي تضمّ السعودية والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا — أن تضطلع بدورٍ حاسمٍ في تجاوز التناقضات التي تحول دون تمكين الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا من أداء دور الشريك الفاعل القادر على توفير القوات البرية اللازمة على الأرض.
فالحملات الجوية والبحرية، مهما بلغت دقتها، لا يمكن أن تحسم المعركة دون تقدّمٍ ميدانيٍّ منظمٍ لقواتٍ يمنيةٍ موحّدةٍ ضمن إطارٍ عربي-غربيٍ متماسك.
بين التسوية المراوغة وسلامٍ عصيّ المنال:
يقف اليمن اليوم على مفترقٍ خطيرٍ بين خطاب السلام وواقع الحرب.
فالحديث عن «السلام في اليمن» بات أقرب إلى الشعار منه إلى المسار الواقعي. فالحكومة الشرعية ما تزال مشتتة، وأولويات التحالف غير متناسقة، فيما لم تتمكن الرباعية بعد من صياغة خريطة طريقٍ واضحة.
وهكذا تحوّل ما سُمّي بالهدنة إلى ركودٍ مُدار لا هو حربٌ حاسمة ولا سلامٌ مستدام، بل حالة فراغٍ سياسيٍ تُضعف الدولة وتؤجل الاستحقاقات الكبرى.
فرصة ضائعة أم تحوّل استراتيجي؟
أي جهدٍ جادٍ لاحتواء المشروع الإيراني في المنطقة لا بدّ أن ينطلق من تمكين القوات اليمنية الشرعية وجعلها محورًا في الاستراتيجية لا مجرد ملحقٍ بها.
فاليمن بموقعه الجغرافي المطلّ على باب المندب يشكّل ركيزة الأمن البحري العربي والعالمي. ومن شأن مقاربةٍ يمنية-عربيةٍ منسّقة، تحظى بدعمٍ أميركي-بريطاني، أن تُعيد تعريف البحر الأحمر كممرٍّ للتعاون لا كساحةٍ للتنافس والصراع.
ولن يتحقق ذلك إلا عبر توحيد القيادة السياسية والعسكرية اليمنية ودمج التشكيلات المختلفة في جيشٍ وطنيٍ محترفٍ خالٍ من الولاءات الضيقة، ليصبح قادرًا — بدعمٍ من الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين — على كسر مخلب الحوثي وإفشال مشروع طهران الرامي إلى بسط الهيمنة على أحد أهم الممرات البحرية في العالم، وفتح الأفق أمام قيام دولةٍ يمنيةٍ حرّةٍ ومستقرة.
خاتمة: بين اليابسة والبحر يُحسم مصير السلام:
تقف المنطقة اليوم عند مفترقٍ دقيق: إمّا حملة دولية موحّدة تُعيد التوازن وتُحيد الخطر الحوثي-الإيراني في الممرات الحيوية، وإمّا تصاعد عسكرة البحر الأحمر ليغدو مسرحًا مفتوحًا للتنافس العالمي.
وفي كلمتها أمام الأمم المتحدة، أكدت اليمن أن دعوتها ليست نداء حربٍ بل نداء مسؤوليةٍ جماعية لحماية أمن الملاحة وضمان الاستقرار الإقليمي.
لكن تلك المسؤولية لن تتحقق إلا بإرادةٍ عربيةٍ متماسكةٍ ورؤيةٍ غربيةٍ واضحة.
فما لم يتوافر هذا التوافق، سيظلّ اليمن في عين العاصفة، بلدًا يبحث عن ذاته وسط متاهة التسويات الضائعة والسلام المراوغ، حيث تتقاطع الجغرافيا والسياسة والمصير في معركةٍ واحدةٍ من أجل الوجود والسيادة.
✦ يعتمد هذا المقال على النسخة الأصلية التي نُشرت بالإنجليزية في صحيفة The Washington Outsider بتاريخ 4 نوفمبر 2025، وقد أُعيدت صياغته بالعربية بتنقيحٍ وتطويرٍ يتناسبان مع المستجدات الإقليمية الأخيرة.
