
التحذير يصبح احتمالًا
حين صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لقناة “فوكس نيوز” بأن إيران تسعى لنقل مواد نووية إلى جماعة الحوثيين في اليمن، بدا الأمر للبعض محاولة دعائية لتحفيز تحرك غربي ضد طهران. لكن تصريح محسن رضائي، القائد السابق للحرس الثوري وعضو مجمع تشخيص مصلحة النظام، أعطى وزناً جديداً لما كان يُنظر إليه كمجرد مزاعم.
إذ أعلن رضائي أن “مخزونات اليورانيوم المخصب تم نقلها إلى مواقع آمنة وسرية منذ زمن طويل”، مما يطرح سؤالاً وجودياً: هل أصبحت طهران فعلاً تتحرك بنشاط خارج المسارات التقليدية لاحتواء برامجها النووية؟ وهل أصبحت بعض هذه “المواقع الآمنة” خارج إيران، وربما في مناطق توتر مثل اليمن؟
ماذا يعني نقل اليورانيوم إلى “أماكن آمنة”؟
في ظل الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي طالت منشآت أراك ونطنز وأصفهان، ومع تقليص عدد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بسبب الظروف الأمنية، يصبح إعلان رضائي مثيراً للقلق من زاويتين: الأولى، أن طهران ترى في المواقع النووية التقليدية هدفاً مكشوفاً، والثانية، أنها قد شرعت فعلاً في توزيع أو “تشتيت” المخزون النووي إلى مواقع يصعب تتبعها.
والأهم من ذلك، أن التوقيت ليس اعتباطياً. فالتصريح جاء في خضم تصعيد عسكري إيراني إسرائيلي مباشر، وبعد تقارير عن محاولات إسرائيل لإحداث فوضى داخل إيران، ما يوحي بأن طهران تتحرك بدافع الخشية من ضربة ساحقة أو اختراق أمني كبير.
نحو تفعيل السيناريو الأخطر:
التهريب إلى وكيل غير دولتي؟
على المستوى التقني، فإن تهريب كمية صغيرة من اليورانيوم عالي التخصيب لا يمثل تحدياً لوجستياً كبيراً؛ فـ 8 إلى 10 كيلوجرامات يمكن إخفاؤها بسهولة داخل حقيبة سفر. أما التحدي الحقيقي فيكمن في قرار سياسي من طهران بالمخاطرة بتمكين جماعة مسلحة غير دولية من هذا النوع من القوة التدميرية.
وفي ظل تجربة إيران الطويلة في استخدام وكلاء غير مباشرين ـ من حزب الله في لبنان إلى الميليشيات في العراق واليمن ـ لا يبدو السيناريو خارج نطاق تفكير استراتيجي مبني على مفهوم “الردع المتنقل”، حيث تصبح بعض أوراق الضغط خارج الحدود ومنفصلة عن الدولة الأم، بما يتيح لطهران هامش إنكار معقول.
التجربة الباكستانية والمثال الإيراني:
الفارق هو “الدولة”
شبكة عبد القدير خان الباكستانية، رغم جرأتها، لم تقدم على تمكين جهة غير حكومية من التكنولوجيا النووية. وحتى في أكثر مراحل التسريب النووي الدولي انفلاتاً، بقيت هذه التقنية حكراً على الدول، ولو حتى في إطار سرّي. ولذلك، فإن مجرد التفكير في نقل مواد انشطارية إلى الحوثيين لا يمثل فقط سابقة خطيرة، بل تهديداً مباشراً لبنية الردع النووي العالمية.
الأهم أن إيران، رغم تكرارها لخطاب العداء للولايات المتحدة وإسرائيل، ما زالت حريصة على عدم تجاوز الخط الأحمر النووي المتمثل في “الاستخدام أو التمكين المباشر”.
الرمزية الإشعاعية كأداة ردع نفسية؟
أحد السيناريوهات الأقل تكلفة وأكثر مرونة هو نقل مواد مشعة محدودة لاستخدامها كـ”قنبلة قذرة”. هذه المواد ـ مثل السيزيوم أو الكوبالت 60 ـ لا تُحدث انفجاراً نووياً، لكنها تُسبب تلوثاً إشعاعياً واسع التأثير النفسي والاقتصادي، خصوصاً في موانئ أو مضائق بحرية مثل باب المندب أو سواحل البحر الأحمر.
وفي حال تم إدخال هذه المواد إلى مسرح العمليات اليمني، فإن ذلك يمكن أن يُستخدم كورقة ابتزاز سياسي أو تهديد غير تقليدي للسفن والبنى التحتية.
الردع في زمن الاختراق: نحو هندسة أمنية استباقية
من المهم أن يُفهم تصريح رضائي في سياق استراتيجي لا تقف فيه إيران عند حدود الدفاع، بل ربما تنتقل إلى استخدام ما تبقى لديها من أدوات القوة النووية في معركة “ردع مرن”، عبر التلويح دون الإفصاح، والتمركز دون التصعيد المباشر.
وفي هذا السياق، يصبح المطلوب من دول الإقليم والمجتمع الدولي هو تحديث منظومات الرصد والإنذار المبكر، وتوسيع مفهوم الردع ليشمل الأدوات غير التقليدية، بما في ذلك التهديدات النووية الرمزية أو التحركات السرية العابرة للحدود.
خاتمة: من سيناريو إلى عقيدة؟
إذا كان سيناريو تهريب مواد نووية إلى الحوثيين لا يزال افتراضياً، فإن إعلان إيران عن وجود “مخزونات متنقلة وآمنة” لم يعد كذلك. وبالتالي، فإن المعركة لم تعد فقط على الأرض أو في الأجواء، بل في عقول المخططين الاستراتيجيين. وهنا، تتحول احتمالات الأمس إلى عناصر في عقيدة الغد عقيدة تتجاوز حدود الدول والجبهات، وتحتاج إلى أدوات ردع تتجاوز بدورها حدود التفكير التقليدي.