
التطفيف هو مصطلح يُستخدم للدلالة على التلاعب أو التقليل من الحقائق، وهو ليس محصورًا في الخداع المادي أو الملموس بل يتجاوز ذلك ليطال القيم والمبادئ. في الحقل السياسي، يعني التطفيف إنكار الجهود الحقيقية للأفراد وتكريس الثقافة التي تُعلي من شأن الأسماء الفارغة وتقصي الأفراد الذين يقدمون إسهامات حقيقية. وهو يُسهم في تكريس ثقافة الانتهازية التي تنمو في ظل غياب معايير واضحة وموضوعية للتقييم والاختيار.
إذا نظرنا إلى المشهد السياسي المعاصر، نجد أن التطفيف قد بات منهجًا متبعًا في كثير من الأحيان، بحيث يتم مكافأة الولاءات الشخصية على حساب الكفاءات الوطنية. فعندما يُعامل المخلصون كأدوات غير ذات قيمة، وتُمنح الفرص للأشخاص غير الأكفاء فقط بسبب ارتباطاتهم أو مصالحهم الخاصة، فإننا بذلك نفتح بابًا للانحدار السياسي والاجتماعي.
يشكل التطفيف في السياسة تهديدًا جادًا للتماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية. فبغياب العدالة في التقدير والمساواة في الفرص، يتولد شعورٌ عميق بالإحباط لدى الأفراد الذين يُستبعدون من دائرة صنع القرار، وهو ما يؤدي إلى تفشي الاستقطاب السياسي والانقسام المجتمعي. إن بناء أي مجتمع قوي يعتمد على تعزيز الشعور بالعدالة والاحترام المتبادل بين أفراده، وهو ما يتطلب إعادة النظر في السياسات القائمة على المحسوبية.
ولا يخفى أن هذا الشعور بعدم العدالة يولد إحساسًا بالظلم، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات الحكومية والسياسية. فحينما يشعر المواطنون أن جهودهم لا تُقابل بالتقدير المناسب، يصبح من الصعب عليهم الانخراط بشكل فعال في المسار الوطني، مما يعطل تقدم البلاد.
أحد أخطر جوانب التطفيف السياسي هو الخطاب الزائف الذي يُستخدم لتغطية الفساد، وعدم الكفاءة، وتدني مستوى الإدارة. يطرح السياسيون من أصحاب المصالح الشخصية خطبًا رنانة، تتحدث عن الوطنية والانتصارات الكبرى، بينما الواقع يعكس صورةً مغايرة تمامًا من التراجع والفساد. هذا الخطاب لا يحاول فقط تضليل الرأي العام، بل يُسهم في تعزيز ثقافة الإحباط ويجعل المواطنين يشعرون أن لا جدوى من السعي وراء التغيير.
إنَّ انتشار ظاهرة التطفيف في السياسة لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة لعدة عوامل، أهمها غياب الشفافية في اتخاذ القرارات، والسياسات الاستبدادية التي تعطي قوة غير محدودة لأولئك الذين يديرون السلطة. فكلما تغيب المحاسبة، وكلما ارتبطت المناصب بالولاءات لا بالكفاءات، يصبح التطفيف جزءًا من النظام الذي يدير البلاد.
إضافة إلى ذلك، فإن التوجهات الإقليمية والدولية التي قد تفرض على الدول أن تسير وفق أجندات معينة، تسهم في تعزيز هذا النوع من السلوك. ففي العديد من الأحيان، تكون القوى الخارجية قد تدفع الأطراف السياسية المحلية إلى الانحراف عن مسار القيم الوطنية، مما يُقوّض السيادة ويُضعف القرار السياسي.
من أخطر مظاهر التطفيف السياسي هو المحاباة والمحسوبية، وهما أسلوبان يُستخدمان لتقدير الأشخاص بناءً على اعتبارات شخصية بعيدة عن معايير الكفاءة والمقدرة. حين يُعطى المناصب لمن يملكون علاقات شخصية قوية أو يرضون السلطويين على حساب المؤهلين، فإننا لا نغذي سوى ثقافة الانتهازية التي تضر بمصلحة الوطن. هذه الأساليب تفتح المجال أمام الفساد وتُضَيّق الفرص أمام المبدعين والمصلحين.
إن إقصاء الكفاءات من المشهد السياسي يشكل خطرًا كبيرًا على التنمية المستدامة لأي دولة. فعندما يُستبعد الأفراد الذين يحملون أفكارًا مبتكرة، ويتسمون بالكفاءة، ويملكون رؤى جديدة من المناصب العليا في الدولة، يتم تفويت الفرص لتطوير السياسة العامة والاقتصاد. الكفاءة لا تتعلق بالعلاقات أو الانتماءات السياسية، بل بالقدرة على خدمة المصلحة العامة بجدية وصدق.
ولعلّ أعظم الشواهد على ذلك أن الأوطان التي استطاعت أن ترتقي إلى مصاف الدول المتقدمة، لم تُبْنَ على المحاباة ولا المحسوبية، بل على ترسيخ مبادئ الجدارة والاستحقاق والمهارة والخيال الخلاق. لقد صنعت تلك الأمم نهضتها حين آمنت بأن الفرد، أيًا كان موطنه أو نسبه أو انتماؤه، يجب أن يُمنح الفرصة العادلة ليحلم، ويجتهد، ويبدع، ويتقدّم، وأن المجتمع لا يرقى إلا حين تفسح الدولة المجال أمام كل طامح لأن يبلغ أقصى إمكاناته.
فهناك، لا يُكافَأ التملق، بل يُحتفى بالتميّز. ولا يُقصى أصحاب الكفاءة، بل يُستثمر فيهم. وحيثما كانت المعايير واضحة، والفرص متاحة، كان الإبداع ممكنًا، والتنمية مستدامة، والولاء للوطن متجذرًا في النفوس.
الخلاصة: إن محاربة التطفيف في السياسة أمر ضروري لبناء دولة قوية وعادلة. إن إعادة بناء الثقة في المؤسسات السياسية، وتطبيق مبادئ الشفافية والمحاسبة، هي الأساس لبناء مستقبل مشرق. لا بد أن تكون المناصب والفرص مبنية على الجدارة، وأن تُحترم حقوق الأفراد ويُعترف بجهودهم، بغض النظر عن خلفياتهم الشخصية أو السياسية.
إن العدالة في التقدير ليست ترفًا أخلاقيًا، بل هي ضرورة وجودية لأي مشروع وطني جاد. إذ لا نهضة مع غمط الحقوق، ولا إصلاح مع تغييب الأوفياء، ولا وطن يُبنى بمداد الزيف والتطفيف.