ليست الكهرباء مجرد وسيلة لجعل المنازل منيرة في ظلام الليل، بل هي صور تعكس حياة الأمة من مختلف جوانبها. وحين تكون المدن منيرة في لياليها تصبح حياة الناس مضيئة في ساعات من صفاء النفس. لكن حين تصبح الليالي مثل سواد الليل ينعكس هذا على حياة الفرد والجماعة في شكل معاشهم ونوعية علاقاتهم.
عدن أول مدينة في جزيرة العرب عرفت الكهرباء في عام 1926م، ومن المفروض أن تكون اليوم من المدن التي لا يعرف انقطاع الكهرباء إليها طريقاً إلا في حالات. غير أنها قد تحولت إلى مدينة مظلمة لا يسكن ظلام الليل منازلها بل دخل أنفس سكانها حتى غدت وضعية السواد مرافقة لحياة أهلها.
فهل تصالح أهل عدن مع كل أوجاعها وأزماتها حتى لم يعد هناك من مخرج من هذا الظلام سوى التعايش معه وكأنه جزء من قدر ليس له من مرد؟
ونحن إن شاهدنا ظلام المنازل في حالنا نشعر بظلام الأنفس في واقعنا. منازل مظلمة وحياة غلفها سكون هو من قدرية الاستسلام أكثر مما هو صبر على أزمة. أن تأتي الكهرباء أو تذهب فهي لا تنير سوى لحظات من زمن نفقه مظلم قد لا يرى فيها البعض مخرجاً نحو النور.
كانت عدن في الماضي مدينة تسهر مع أنوارها، وإذا بها اليوم تغرق في أمواج ظلامها! وكم من نفس تساكن هذا الوضع، والوجع يعصف بها؛ لأن النور لم يعد إلا مسافة من الزمن لانتظار الظلام.
مدن وشعوب ودعت شيئا اسمه انقطاع الكهرباء، لأنها دخلت عصر نور المعرفة وتطورت معارفها في العلم والصناعات وقوة الاقتصاد، وما هذا إلا دليل على ضياء أنفسها التي تعانق النور والحياة في كل ساعات يومها.
أما هنا، فقد ضرب الظلام الأنفس، كل رغبة فيها تدفع همتها نحو العمل والإنتاج. فلا فرق بين مقر عمل نامت فيه رغبة الحضور والدفع بطاقة النفس نحو المزيد من العطاء حتى أصبحت في عجز نهارها مثل ظلام ليلها، فكل الطرق تقود إلى الأفق المسدود.
والمنازل لم تعد مستقراً للنفس من إرهاق العمل، بل هي مثل الزاوية المظلمة التي يجلس فيها منفردا من فقد الرغبة في الاتصال أو غابت عنه مباهج الحياة. هذه العادة نفسياً تخلق في الذات عدم الاهتمام بما هو مفروض عليها. وهذا ما نراه في شوارع عدن التي باتت فيها الأوساخ والعشوائية والإزعاج وكل أصناف الفوضى.
كل هذا ما هو إلا انعكاس لما نزل على الأنفس من ظلام وقهر، لأن الجواب عن السؤال ذهب بعيداً في تلك الزوايا الخلفية الأشد ظلاماً من انقطاع الكهرباء في هذه الأبعاد. وبعيداً عن وعي الأمة تتولد في أنفس أجيال قادمة عقد نفسية قاهرة ضد هذا الوقع. وتصبح الرغبة في الانتقام منه الطريق الموصلة من نفق النفس المظلم إلى متاهات الحياة.
حين يخيم الظلام على الأنفس، يصبح رحيله أصعب من انقطاع الكهرباء.
