قصائد الشاعر محمد الجماعي أنموذجاً {ج1}

14 أكتوبر/ خاص:
كتب / صالح حمود:
يحتل الشعر الشعبي مكانة مهمة بوصفه شكلاً من أشكال التعبير الجماعي في المجتمعات العربية. وإذا كان الشعر الفصيح هو صوت الأمة، فإن الشعر الشعبي يمثل ديوان العرب العاكس لهموم المجتمعات العربية متعددة اللهجات، التي تشكل خصوصيات هوياتها الثقافية وقواسم عيشها المشترك في أكثر من مجال وسياق، والمعبِّر عن غنى هذا التنوع في المؤتلف الكلي.
ولا يقل الشعر الشعبي مكانة عن الفصيح، بما يمثله كشكل من أشكال التعبير الجماعي للهجات متعددة، تمثل نسيجاً اجتماعياً متنوعاً ومتداخلاً، تأتلف سماته في أغلب السياقات وتختلف باختلاف اللهجات ودرجة تداخلها مع اللغات الأخرى، وعمق اختزانها للغة العربية الفصيحة التي تشكل معجم معظم اللهجات في بلدان كثيرة منها اليمن.
والشِّعر الشعبي، بوصفه شكلاً من أشكال التعبير الجَماعي، هو ليس مجرد إبداع جمالي، بل هو مُمارسة ثقافية تتداخل فيها السياقات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية لتشكيل رؤية العالم كما يراها الفرد العادي في مُحيطه. يتجاوز دور الشِّعر الشعبي كونه انعكاساً سلبياً للواقع، ليكون أداة فاعلة في صياغة الوعي الجَماعي، وتعزيز التماسك الاجتماعي، ونقد البُنى القائمة.
1 - الشعر الشعبي كسجل للذاكرة الجمعية:
تتفاوت الجهود العلمية النقدية في دراسة الشعر الشعبي، ويعتقد الباحثون أن الشعر الشعبي -شأنه شأن الأدب الشعبي بمعناه العريض- مصاب بالإهمال النقدي، سواء في مجال التدوين أو منحه القدر الذي يستحقه من الدراسة، ليس من منظور أدبي فقط لكن في إطار أشمل. فهو وعي الذاكرة الحية والناطق بتفاعلات حاضرها، وأرشيف عام لتاريخها. وقد بات مع التطور الذي شهدته وسائل التواصل الاجتماعي له شأنٌ يتجاوز المحلي والوطني، وإذا لم يصل إلى درجة الشعر الفصيح في مكانته كصوت الأمة، إلا أنه استطاع أن يحشد لقضاياها الرأي الأوسع، وتجاوز بتأثيره صوت النخبة في أكثر من مشهد وطني وعربي.
ناهيك عن تفرده في تمثيل مواقف المجتمعات من الأحداث السائدة، وتسجيل نبضها والمشاركة فيها. فالشاعر الشعبي هو موقف ملتزم بقضايا أمته الكبرى، تماماً كما هو عاكسٌ لهموم المجتمعات، ومعبِّرٌ عن مشاعرها تجاه ما حولها من أحداث وما تواجهه من تحديات.
2 - الوظيفة التاريخية:
في وظيفته التاريخية، يقدم الشعر الشعبي بديلاً للسرد التاريخي الفوقي، ويوثق الأحداث والتحولات من منظور أعمق وأشمل، يبدأ من أسفل بنى المجتمعات إلى أعلاها، في خط عكسي مغاير للسرديات التاريخية الرسمية -خاصة فيما يتعلق بالسياسي منها- والتي تكاد تكون حصرية حول الأفراد والنخب السياسية والشخصيات البارزة.
في وظيفته التاريخية هذه، لا يجسد الشعر نبض الحياة اليومية كصور شعرية حية فحسب، بل ويعيش الأزمات والأحداث بتفاصيلها، وينقل مؤثراتها وآثارها، كما يعيشها المجتمع ككل.
3 - النقد الاجتماعي والمقاومة الرمزية:
نظراً لسهولة تداوله وقوة تأثيره، يعد الشعر الشعبي منبراً حيوياً للتعبير عن الآراء، كما أنه يشكل وسيلة مقاومة للخطاب السائد، ويتخذ من فضائه الاجتماعي الواسع بديلاً أكثر رحابة وتأثيراً من القنوات الرسمية التي قد لا تسمح بحضور بعض آرائه. فينطلق من هذا الفضاء معبِّراً عن آرائه الساخرة والناقدة لكل سلوك غير قويم تمارسه سلطات أو جماعات أو قوى مؤثرة.
والشاهد أن أكثر شعراء الشعر الشعبي يوظفون ملكاتهم الشعرية لمقاومة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والانحراف الأخلاقي والتفاوت الطبقي. وتشكل رمزية هذه المقاومة وحدها إضافة نوعية للشعر الشعبي والشعر بشكل عام. وهي تمنح المجتمع مجالاً لتفريغ الاحتقان ومواصلة طرح الأسئلة حول البنى القائمة، مما يجعله وسيلة للتغيير البطيء.
4 - التماسك الاجتماعي:
يوظِّف الشاعر الشعبي اللهجات المحلية آليةً لتعزيز قيم التماسك الاجتماعي، مستخدماً هذه الآلية الفعالة للتذكير بالهوية الجمعيّة، مستدعياً كل ما يعزز الانتماء والوحدة، ونابذاً الفرقة، ورافضاً العادات السيئة الدخيلة. ونجد ذلك في مناسبات اجتماعية عدَّة، كالأعراس والأعياد. وتُعدُّ الأناشيد الجماعية طقوساً تُعيد إنتاج قيم التضامن والانتماء. كما أن القصائد التي تمجد تاريخ القبيلة وعاداتها الكريمة، تعزز الشعور بالفخر الجماعي، وتُجدِّد الروابط الاجتماعية في مواجهة عوامل التفتيت الحديثة، مُساهمةً في رفع شأن عوامل البناء الوطني الأخرى ضمن الإطار المجتمعي الأوسع.
5 - الشعر الشعبي وعصر الرقمنة:
أسهم العصر الرقمي في انتشار الشعر الشعبي، ولم يوسع دائرة تأثيره الاجتماعي فحسب، بل وجد فيه فضاءً أوسعَ أسرعَ من وتيرة وصوله وتأثيره. ونشهد في العقد الأخير كيف تحولت منصات التواصل الاجتماعي وقنوات يوتيوب إلى منابر جديدة لتداول الشعر الشعبي وساحات للتباري والتنافس بين الشعراء.
كما أن الميزات التي تقدمها هذه الوسائل قد أسهمت في إعادة إنتاجه وتداوله، والتأثير فيه مباشرةً من قبل المتلقي. وفتحت هذه الوسائل المجالَ واسعاً لأي فرد للمشاركة، مما وسع دائرة الحوار الاجتماعي والنقاش الدائر حول تلك القصائد وأهدافها. وأضاف ذلك للشعر الشعبي عوامل جديدة تعزز من دوره كفاعل اجتماعي، ليس في تشكيل الرأي العام المحلي فحسب، بل وفي مواكبة القضايا المعاصرة في أكثر من سياق.
