قراءة شاملة في ورقة سياسات «إنقاذ محميات عدن الرطبة»



14 أكتوبر/ خاص :
تقرير / دعاء نبيل :
في خطوة تضع قضية التغير المناخي والبيئي في صدارة الأجندة الوطنية والإقليمية، أصدرت مؤسسة الصحافة الإنسانية (hjf) ورقة سياسات عامة استراتيجية بعنوان: «إنقاذ محميات عدن الرطبة: سياسات مقترحة لمستقبل مستدام». هذه الورقة ليست مجرد سرد للمخاطر، بل هي تشخيص دقيق ونداء استغاثة مدعوم بالأدلة والتحقيقات الصحفية، يكشف عن الانهيار الوشيك لخمس من أهم الأراضي الرطبة في اليمن، والتي تُشكل «درع عدن الحيوي» في مواجهة الكوارث المناخية.
الورقة، التي تُمثل أحد أهم مخرجات مشروع «أصوات عدن الخضراء» الذي تنفذه مؤسسة الصحافة الإنسانية بالشراكة مع منظمة سيفرورلد وبتمويل من الاتحاد الأوروبي وبالتنسيق مع الهيئة العامة لحماية البيئة فرع عدن، تتجاوز البعد البيئي لتدخل في صلب التحدي الوجودي الذي تواجهه المدينة المصنفة ضمن الأكثر عرضة لارتفاع منسوب سطح البحر عالميًا.

القسم الأول: أهمية المحميات: الدرع الحيوي لمدينة مهددة
تؤكد الورقة أن الأراضي الرطبة الخمس في عدن – الحسوة، بحيرات عدن، المملاح، خور بئر أحمد، ومصب الوادي الكبير – ليست مسطحات مائية عادية، بل هي نظم بيئية متكاملة تمنح المدينة «خدمات بيئية واقتصادية لا تقدر بثمن».
هذه المحميات، التي تمتد على مساحة إجمالية تقدر بـ 2500 هكتار، تُعد موطناً لأكثر من 100 نوع من الطيور، بينها طيور الفلامنجو والنورس أبيض العين المهددة بالانقراض، كما أنها مصدر رزق لآلاف السكان المحليين.
مكافحة التغيرات المناخية: «البطل المجهول»
تشير الورقة إلى أن الأراضي الرطبة تُوصف بأنها «بطل مجهول» في التصدي للأزمات المناخية. فهي تلعب دوراً محورياً في امتصاص وتخزين الكربون، حيث تخزن هذه الأراضي كميات من الكربون تفوق ما يخزنه أي نظام بيئي آخر، مما يجعلها أحواضًا طبيعية فعالة لمكافحة الاحتباس الحراري.
كما تعمل على حماية السواحل، إذ تعمل أشجار المانجروف وغيرها من النباتات المحلية كحواجز طبيعية لحماية السواحل من التآكل، وامتصاص قوة الأمواج والفيضانات التي تزداد حدتها مع التغير المناخي.. ومواجهة السيول، لانهh تعمل كأحواض طبيعية لامتصاص السيول وتخفيف وطأتها، وهو دور حيوي لمدينة مثل عدن تعاني من تكرار الفيضانات المدمرة.
القسم الثاني: التهديدات الوجودية «تحليل أسباب الانهيار»
تنتقل الورقة إلى تشخيص «التدهور غير المسبوق» الذي يهدد هذه الثروة الطبيعية بتحويلها إلى «بؤر تدهور بيئي»، كما أن التحديات التي تواجهها ليست بيئية فقط، بل تتداخل فيها عوامل سياسية واقتصادية وقانونية معقدة تفاقمت مع سنوات الحرب الطويلة، ومن تلك التحديات:
الزحف العمراني: التعدي على مساحات المحميات
يُعد التوسع العمراني غير المنضبط الخطر الأول والأكبر، إذ تشير الورقة إلى تفاصيل صادمة حول خسارة مساحات واسعة من المحميات مثل المملاح، حيث فقدت ما يقارب 188 هكتارًا من مساحتها الإجمالية (20 %)، وتحولت أطرافها إلى مكبات للنفايات ومخلفات البناء.
ومحمية مصب الوادي الكبير، حيث تم الاستيلاء على ثلثي مساحته الأصلية وتحويلها إلى مدن سكنية، في مخالفة صريحة للقرار الحكومي الذي أعلنها محمية طبيعية.
ومنطقة خور بئر أحمد التي تحولت إلى موطن دائم لمساكن عشوائية، بعد أن بدأت كأكواخ نازحين مؤقتة، وهو ما يشير إلى فشل في إدارة الأراضي بعد حرب 2015.
الفشل الإداري والفساد المؤسسي
تؤكد الورقة وجود «فشل إداري شامل» في تطبيق الإطار القانوني «المتين» لحماية البيئة. المشكلة تكمن في ضعف الكفاءة المؤسسية وغياب التنسيق بين الجهات الحكومية.
تعارض الصلاحيات: وهنا تُبرز الورقة حالة من الفوضى الإدارية، حيث تقوم جهات مثل «هيئة الأراضي والمساحة» بتسجيل وثائق ملكية داخل المحميات، بينما توافق «هيئة الاستثمار» على مشاريع فوقها، ما يقوض جهود حماية البيئة.
ضعف الجهاز القضائي: إذ يُعاني القضاء من بطء الإجراءات وانتشار الفساد، مما يجعل عملية استعادة الأراضي المعتدى عليها شديدة التعقيد، ويهدد المحميات بالاندثار قبل اكتمال الإجراءات القانونية.
غياب الإدارة الموحدة: إذ أن تعدد الجهات المسؤولة عن إدارة بعض المحميات تسببت في إضعاف الحماية، إلى جانب غياب الخطط طويلة الأمد والتخطيط المستدام.
التلوث البيئي وتحويل المحميات إلى
«مصدر للأوبئة»
وهنا أكدت الورقة أن التلوث يشكل «خطرًا داهماً يهدد بقاء المحميات مثلمحمية الحسوة التي تحولت إلى «مكب للنفايات» ومصدر للأوبئة، بعد أن كانت «جنة بيئية» وحازت جائزة دولية، وتتعرض الآن للتجريف والتعديات، مما يهدد بزوالها الكامل.
ظهور مخلفات صناعية وصرف صحي في المحميات، حيث يفاقم السكان المشكلة بتصريف مياه الصرف الصحي والمخلفات الصناعية والنفطية مباشرة في محمية بئر أحمد، مما يمثل «تهديداً وجودياً» للكائنات البحرية.
التغيرات المناخية وغياب البيانات
تُشير أستاذة علوم الحياة والبيئة في جامعة عدن، ندى السيد (حسب ما ورد في الورقة)، إلى أن التغيرات المناخية المتسارعة تمثل «تهديدًا وجوديًا» حقيقيًا، وتتفاقم الأزمة بسبب فقدان الغطاء النباتي، حيث أدت إزالة الغطاء النباتي (المانجروف) في الحسوة إلى تفاقم الفيضانات وزيادة حدتها.
كما أن النقص الحاد في البيانات بسبب غياب الدراسات العلمية والدقيقة ونقص البيانات الشاملة يعيق قدرة صانعي القرار على التخطيط السليم واتخاذ التدابير الوقائية الفعالة.
القسم الثالث: البديل الموصى به: نحو سياسة شاملة ومتكاملة
قدمت الورقة ثلاثة بدائل سياساتية كحل التحديات والتي تتضمن: (1) الحفاظ على الوضع الراهن، (2) اتخاذ إجراءات إدارية وقانونية محدودة، و (3) تبني سياسة شاملة ومتكاملة لحماية المحميات.
وخلصت الورقة إلى أن الخيار الثالث هو الأكثر فعالية وطموحًا واستدامة، رغم أنه الأكثر كلفة ويتطلب إرادة سياسية قوية. فهو يضمن معالجة الأزمة من جذورها عبر نهج يجمع بين الأبعاد القانونية والإدارية والبيئية والمجتمعية والدولية.
القسم الرابع: خارطة طريق الإنقاذ: توصيات مفصلة وعاجلة
تنقسم التوصيات التي ذكرتها الورقة، والتي تمثل خارطة طريق للحل، إلى أربعة مستويات مترابطة:
اولا على المستوى القانوني والإداري، وهذا المستوى يتطلب تدخلاً حكومياً رفيع المستوى وفورياً، خاصة في مجال التفعيل والتجريم، عبر تشديد تطبيق القوانين البيئية، وتفعيلها بصرامة، وتجريم مرتكبي التعديات على أراضي المحميات ومحاسبتهم، وذلك كما أكد المستشار القانوني فهد محمد سعيد (حسب ما ورد في الورقة).
والترسيم والإنهاء، وذلك عبر البدء الفوري بإعادة تحديد وترسيم الحدود المتبقية للمحميات بدقة علمية وقانونية، وتثبيتها بعلامات واضحة ودائمة على الأرض. ويجب أن تكون الأولوية القصوى هي وقف التدهور المستمر وحماية ما تبقى.
وتنفيذ إصلاحات هيكلية، عبر إنشاء هيئة إشرافية وطنية موحدة تتمتع بصلاحيات رقابية وإدارية واسعة، وتُخصص لها ميزانيات كافية، وتضمن التنسيق الرسمي والفوري مع جميع الجهات الحكومية لضمان عدم إصدار أي تصاريح أو وثائق ملكية داخل المناطق المحمية.
ثانياً على مستوى التخطيط والحلول البيئية، وهنا يتم التركيز على الحلول العملية لإعادة تأهيل البيئة، عبر إطلاق الحملة الفورية لإزالة جميع التعديات والمنشآت غير القانونية، ووضع خطة شاملة لتنظيف هذه المناطق من النفايات ومياه الصرف الصحي.
واستعادة التوازن البيئي، عبر تنفيذ برامج منظمة لزراعة أشجار المانجروف والنباتات المحلية المقاومة للتغيرات المناخية، بهدف تثبيت التربة وحماية الشواطئ من التآكل.
والعمل على الاستثمار في البنية التحتية، و بناء شبكات صرف صحي حديثة لمنع تصريف المياه الملوثة في المحميات، واستخدام التقنيات الحديثة مثل أنظمة الاستشعار عن بعد لمراقبة حالة المحميات.
ثالثاً على مستوى التوعية والمشاركة المجتمعية، وتُعد المشاركة المجتمعية عنصراً أساسياً للحل المستدام، إذ لا يمكن للمحميات أن تصمد دون دعم السكان المحليين، وتكمن أهمية الشراكة التنموية في إشراك السكان المحليين كشركاء فاعلين وليس مجرد مستفيدين، عبر توفير فرص عمل مرتبطة بحماية المحميات مثل الحراسة أو السياحة البيئية المستدامة.
وتنفيذ حملات توعية مكثفة، عبر إطلاق حملات توعية بيئية شاملة تستهدف مختلف شرائح المجتمع، لتعزيز فهم المخاطر المناخية والبيئية، ودور المحميات في الأمن البيئي والاقتصادي للمدينة.
رابعاً على مستوى التعاون الدولي والبحث العلمي، وذلك لتأمين مستقبل المحميات، عبر ربطها بالجهود العالمية من خلال تفعيل اتفاقية رامسار، إذ تكمن أهمية المطالبة بتفعيل التزامات اليمن في الاتفاقية الدولية للأراضي الرطبة، لضمان الحصول على الدعم الفني والمالي اللازم لحماية المحميات، ومنحها اعترافاً دولياً يعزز مكانتها البيئية.
والعمل على تفعيل البحث العلمي القائم على الأدلة، عبر دعم وتشجيع الأبحاث والدراسات العلمية حول التنوع البيولوجي وتأثيرات التغير المناخي على المحميات، وتعزيز التعاون مع الجامعات والمؤسسات البحثية الدولية لتطوير استراتيجيات مبنية على الأدلة والبيانات.
الخاتمة: الرهان على مستقبل عدن
تختتم الورقة بالتأكيد على أن محميات عدن الرطبة تتجاوز كونها مساحات طبيعية، فهي «كنوز بيئية وإرث وطني ثمين»، وإنقاذها ليس خياراً ترفيهياً بل هو شرط أساسي لضمان التنمية المستدامة، ودرء الآثار المدمرة للتغيرات المناخية عن مدينة عدن.
إن تبني السياسات المقترحة في هذه الورقة يُعد «واجباً جماعياً» يقع على عاتق الحكومة، والمجتمع المحلي، والمنظمات الدولية، ويتطلب تضافر الجهود على الفور قبل أن تفقد عدن درعها الطبيعي ويتحول هذا المشهد البيئي الفريد إلى مجرد ذكرى، مما يهدد مستقبل المدينة برمتها.
إضاءات حول الورقة ومُعدها وناشرها
أعدّ ورقة السياسات هذه الصحفي العلمي بسام القاضي، وهو شخصية محورية في مجال الصحافة البيئية والمناخية في اليمن، ويتمتع القاضي بخبرة مهنية تزيد عن عشر سنوات، وهو عضو فاعل في شبكات مهنية دولية مرموقة مثل الاتحاد العالمي للصحفيين العلميين وجمعية الصحفيين البيئيين (SEJ) في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يُعد أول صحفي يمني يحصل على عضويتها.
وقد نال القاضي تقديرًا دوليًا لعمله، وحاز جوائز في الصحافة العلمية وإعلام الهجرة، مما يعزز مصداقية الورقة وقيمتها البحثية، و تركز خبرة القاضي على قضايا محورية مثل التلوث البحري والبيئي، وتأثيرات التغيرات المناخية على الأمن البشري والمائي والغذائي في اليمن، بالإضافة إلى تغطية التعديات على المحميات الطبيعية، مما يجعله خبيراً متخصصاً في قضايا الأراضي الرطبة في عدن.
مشروع «أصوات عدن الخضراء»
تُعد ورقة السياسات مخرجاً أساسياً لمشروع «أصوات عدن الخضراء» الذي تنفذه مؤسسة الصحافة الإنسانية بالشراكة مع منظمة «سيفرورلد» وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، و يهدف المشروع إلى مواجهة التحديات البيئية والمناخية التي تواجه عدن من خلال تمكين المجتمع المدني، كما يتمحور عمل المشروع حول تزويد ثماني منظمات مجتمع مدني بالمهارات اللازمة لقيادة العمل البيئي والمناخي، وتأسيس شبكة «أصوات عدن الخضراء» لتعزيز التنسيق بين المنظمات والجهات الحكومية والخبراء. كما يتضمن المشروع إطلاق حملات إعلامية وميدانية واسعة لزيادة الوعي والمساهمة في رسم سياسات بيئية مستدامة، والمطالبة بإصدار قرار جمهوري لحماية المحميات.
مؤسسة الصحافة الإنسانية الريادية المناخية
مؤسسة الصحافة الإنسانية (hjf) هي منظمة مجتمع مدني مستقلة غير حكومية وغير ربحية، تأسست في عدن عام 2019، و تُعد المؤسسة من أبرز المنظمات المحلية المتخصصة في اليمن في مجال العمل المناخي والبيئي وأنسنة وتطوير الإعلام، كما تتمتع المؤسسة بخبرة واسعة، حيث نفذت أكثر من 40 نشاطاً في مجال المناخ والبيئة خلال الفترة من يونيو 2022 حتى يونيو 2025، ما جعلها فاعلاً رئيسياً في الجهود المحلية لحماية البيئة وتعزيز الوعي المناخي في اليمن والمنطقة.
مصادر ومراجع الورقة
تعتمد الورقة على منهجية بحثية قوية تجمع بين الجانب الميداني والتوثيقي، وتستند إلى مجموعة من المصادر الرئيسية، و تشمل هذه المصادر مقابلات معمقة مع خبراء في التغيرات المناخية، وأكاديميين في علوم الحياة والبيئة، ونشطاء، ومسؤولين في الهيئة العامة لحماية البيئة.
كما تعتمد الورقة على تحقيقات صحفية معمقة أعدتها مؤسسة الصحافة الإنسانية، بالإضافة إلى وثائق رسمية وعلمية مثل دليل محميات الأراضي الرطبة في عدن الصادر عن الهيئة، ومراجعة وتحليل دقيق للإطار القانوني الوطني كالقانون رقم (26) لسنة 1995 بشأن حماية البيئة، وكذلك الالتزامات الدولية لليمن مثل اتفاقية رامسار. هذا التنوع في المصادر يمنح الورقة سلطة علمية وقانونية تبرر التوصية بـ «سياسة شاملة ومتكاملة» كحل وحيد لإنقاذ محميات عدن الرطبة.
اقتباسات التقرير الصحفي
محميات عدن الرطبة: الدرع الحيوي يواجه الانهيار الوشيك
الزحف العمراني ابتلع ثلثي مصب الوادي الكبير
البطل المجهول: تخزين الكربون ومكافحة الاحتباس الحراري
أحواض طبيعية لامتصاص السيول وتخفيف الفيضانات
حاجز طبيعي: تحمي السواحل من التآكل وقوة الأمواج
ملجأ الطيور: موطن رئيسي للفلامنجو والنورس المهدد بالانقراض
إنقاذ المحميات: واجب جماعي لدرء التغير المناخي٫

