نجاح العملية التربوية والتعليمية تعتمد على مكانة المعلم في المجتمع، مكانة اجتماعية رفيعة، مستوى معيشي وصحي أفضل، راتب يكفيه ويحمي مكانته بين أوساط المجتمع.
ولكن يجب أن لا ننسى أو نتناسى أن مهمة المعلم مرتبطة بالهدف العام للتربية والتعليم وهو تهيئة الأفراد وتأهيلهم ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع، من خلال تزويدهم بالمعارف والمهارات والقيم التي تمكنهم من تحقيق ذواتهم، والمساهمة في تقدم مجتمعاتهم. يشمل ذلك تنمية قدراتهم العقلية والمعرفية، وتشكيل شخصياتهم، وتعزيز قيمهم الأخلاقية والاجتماعية، وتأهيلهم لسوق العمل وليكونوا صالحين.
هذه بحد ذاتها رسالة المعلم، ولا قيمة له ما لم يؤدّها، ولن يحقق ذلك الهدف دون الطالب، فهو الغاية في العملية، فلا قيمة للرسالة التي يحملها المعلم ما لم تحقق الغاية، وهي تنمية الفرد لكي يكون ذا دور فاعل مؤثر في المجتمع، ليشكل مع الآخرين ذلك المجتمع القادر على مواجهة كل التحديات لينهض بالأمة والوطن.
السلطة هي من يرسم سياسة التعليم ويحدد الأهداف، ويوفر كل الإمكانيات لنجاح العملية، من رواتب المعلمين وميزانية التشغيل والمناهج والوسائل التعليمية وتأهيل المعلم، والرقابة والتوجيه، وهذا يعني أن العملية التربوية والتعليمية ترتبط بدور وإمكانيات السلطة، وفي الاستثناء في الحروب والصراعات وسقوط الدولة، أي سقوط السلطة، لا يمكن للمجتمع أن يسمح بسقوط تربية أبنائه، وانهيار التعليم، لما لذلك من مخاطر مستقبلية كبيرة، حيث إن التربية هي بناء المجتمع والبناء والتشييد وذلك يأخذ سنوات لإنتاج مجتمع متعاف وصالح.
وتوقف عملية بناء المجتمع عاما كاملا يعني أننا نحتاج لعشرة اعوام لنستعيد عملية ترميم واستعادة البناء، وهذا ما جعل العالم المتقدم يخوض حروبه مع عدم المساس بالتعليم، فأول ما تضع الحرب أوزارها يبدأ المهتمون باستعادة التعليم، ولنا في نساء الأنقاض في ألمانيا مثال، مجموعة نساء أول ما توقفت الحرب ذهبن للبحث عن الكتب من بين الأنقاض، وفتحن صفوف تعليم في بقايا المباني. وكذلك نهضت اليابان وسنغافورة والصين، وكل العالم المتحضر، والمعلم هو أول المبادرين في نهضة تلك الدول، وما تقديس المعلم إلا لأنه يحمل رسالة سامية، وفدائي يضحي بطاقته وصحته من أجل أن يزرع بذور النهضة في المجتمع، وهي هندسة العقول وتربية النفوس، على حساب صحته ونفسيته، وكما يقال إنه شمعة تحترق لتضيء طريق المستقبل، ولم يقل شوقي (قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا • كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا • أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي • يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا) من فراغ، ولكن معناه كبير في الدور النضالي والوطني للمعلم.
وفي ظل ما تمر به بلدنا اليوم من انقسام وصراعات بينية وتدخلات خارجية، صارت الفتنة تستهدف مقومات البلد وتستهدف إنهاك المجتمع. وعلينا أن ندرك أن المعلم هو أول المستهدفين. ما زلت أتذكر أننا جيل الخمسينيات والستينيات من أبناء عدن وبعض المناطق التي حصلت على نسبة من التعليم، اعتمدت الدولة علينا في فتح مدارس وتعليم البدو والرحل والمناطق المحرومة من التعليم، في الجزر والصحاري والجبال والمناطق النائية. وكانت تلك المهمة تسمى (الخدمة الوطنية) براتب رمزي لا يتعدى حينها 15 دينارا. كانت مهمة وطنية قاسية البيئة والظروف المعيشية والصحية تحملناها من أجل الوطن، وكنا تحت استهداف مرتزقة تم توظيفهم لتصفية المعلمين حتى لا يسمح للدولة الفتية أن تنهض، وأمام أعيننا قتل العديد من المعلمين في لودر ومودية بمحافظة أبين وبعض مناطق الحدود، والبعض الآخر قضى نحبه في ظروف قاسية جدا.
اليوم، نقولها بصراحة إن التنازع غيب الدولة وعطل مؤسساتها، وحدث ما حدث، كل الموظفين يعانون من رواتب ضئيلة جدا، ووضع معيشي وصحي وخدمي غاية في الصعوبة، والفاسدون يعيشون رغد العيش ومكانة لا يستحقونها. كل هذا سينتهي بانتهاء المشكلة، إلا التعليم فإن انهار سنحتاج لسنوات عجاف لاستعادته. وعلينا أن لا نسمح للتعليم أن يتوقف، وبناء الإنسان والعقول أن ينهار، وأن يتحول الجيل لأداة بيد قوى العنف، ضحية للمخدرات والمسكرات والكراهية والعنصرية، ليتحول إلى مجرد قطيع في وطن يقوده فاسدون وبلاطجة ومرتهنون لأعدائنا، للمزيد من تدميرنا.
من حق المعلم أن يطالب بحقوقه كما من حق كل موظف آخر، ولكنْ هناك حق عام. علينا أولا أن نستعيد وطننا من مخالب الفساد والجشع والارتهان والتبعية. هل تعتقد أخي المعلم أن راتب الجندي يساوي خمسة أضعاف راتبك هو صدفة؟ بل ذلك مبرمج لنتحول إلى وقود حروب عبثية، ونبحث فيما يشبع بطوننا ونتوه عن تربية أبنائنا وتشكيل وعيهم وتنمية عقولهم حتى لا يفكروا ويتفكروا فيما يخطط لهم.
طالبوا بحقوقكم بما هو متاح، بحيث لا يتم تعطيل التعليم. ساهموا في استعادة الحياة في مناطقكم وعدن خاصة، وأهم مظهر من مظاهر تطبيع الحياة هو فتح المدارس وحركة الطلاب صباحا، والطابور الصباحي وتحية العلم، وصباح الخير يا أهل الخير، وأنتم بيدكم تشكيل وعي الجيل وتحريك المجتمع لتغيير حقيقي يلبي تطلعاتكم وتطلعات المجتمع، وليس من حقكم أن تحرموا هذا المجتمع من استمرار تربية الأبناء وتعليمهم ولو بالقسط الممكن بحيث لا ضرر ولا ضرار.
