العقد الاجتماعي: من النص الجامد إلى الوجدان الحي
العقد الاجتماعي ليس مجرد وثيقة سياسية أو تفاهم بين نخب، بل هو المرجعية الكلية التي تتجسد في وعي المجتمع وتتحول إلى إطار جامع يحكم علاقة السلطة بالمواطنين. فهو الذي يسبق الدستور ويمنحه شرعيته، ويحدد قواعد اللعبة السياسية في ظل هوية وطنية جامعة.
في الحالة اليمنية، لم يعرف تاريخنا الحديث عقدًا اجتماعيًا صلبًا. الوحدة عام 1990 مثلًا بُنيت على اندماج سياسي سريع، دون أسس مؤسسية أو ضمانات شراكة عادلة، فانفجرت التناقضات لاحقًا. أما مخرجات الحوار الوطني فقد مثلت أقرب محاولة لبلورة صيغة عقد جامع، لكنها توقفت عند منتصف الطريق، فبقيت نصوصًا دون تطبيق، ولم تتحول إلى ممارسة يومية يعيشها الناس في مؤسساتهم وحياتهم العامة.
الحوار الوطني: لحظة تأسيسية ضاعت بين الاغتيالات والتسويات
لقد اجتمعت في الحوار الوطني قوى سياسية ومجتمعية متعددة الأطياف، وعالجت المخرجات قضايا جوهرية مثل القضية الجنوبية، والانتقال نحو الفدرالية، ومشاركة المرأة والشباب، والتوزيع العادل للسلطة والثروة. غير أن الانقلاب الحوثي–الصالحي، وما سبقه من سلسلة اغتيالات، أفشل المسار وأبقى المخرجات نصوصًا حبيسة القاعات.
حتى داخل الحوار ذاته، ظلت قضايا مفصلية عالقة دون حسم، مثل: عدد الأقاليم، طبيعة النظام السياسي، والنظام الانتخابي. كما أن إنهاء المؤتمر بصورة متعجلة حال دون إنزال الوثيقة إلى المحافظات لمناقشتها شعبيًا، وهو ما أفقدها القدرة على التحول إلى عقد اجتماعي راسخ.
الأدهى أن تلك القضايا بقيت سببًا رئيسيًا في إعادة إنتاج الصراع، فبدلًا من أن تكون المخرجات صمام أمان، تحولت إلى نصوص مؤجلة لم تُترجم في وعي وطني جامع.
القضية الجنوبية: بين التهميش والاعتراف بالشراكة
القضية الجنوبية تمثل المحك الأبرز لأي عقد اجتماعي جديد. فغياب المعالجة الجذرية لحقوق الجنوب كان سببًا مباشرًا لفشل العديد من المحاولات السابقة. الجنوب اليوم بحاجة إلى شراكة حقيقية تضمن له مكانة عادلة في الدولة الاتحادية، بعيدًا عن منطق الغلبة أو التهميش.
إن الاعتراف بالتجربة الجنوبية وبتضحيات أبنائه ليس ترفًا، بل شرط لقيام وبقاء الكيان الوطني الجامع نفسه. فالعقد الاجتماعي المنشود ينبغي أن يقوم على قاعدة واضحة: لا وحدة قسرية، ولا شراكة شكلية، بل صيغة اتحادية مرنة تعترف بالتنوع وتحوّل الجنوب من بؤرة أزمة إلى ركيزة قوة. هذه الصيغة هي ما يمكن أن يعيد الثقة المفقودة بين الشمال والجنوب ويفتح الطريق لبناء دولة جامعة.
المصالحة الوطنية: هل تبقى شعارًا أم تتحول إلى مسار؟
لا عقد اجتماعي ممكنًا دون مصالحة وطنية شاملة تنصف الضحايا، وتعالج جراح الحرب، وتفتح الباب لعدالة انتقالية بروح وطنية لا انتقامية. المطلوب هنا ليس مجرد إعلان سياسي، بل مسار مؤسسي طويل يقوم على الاعتراف بالتنوع، إعادة بناء الثقة، وضمان شراكة الجنوب في صيغة اتحادية عادلة.
وفي هذا السياق، يمكن لليمن أن يستفيد من تجارب دول أخرى مثل جنوب أفريقيا التي بنت مسار عدالة انتقالية عبر “لجنة الحقيقة والمصالحة”، أو رواندا التي استطاعت أن تتحول من مسرح إبادة إلى نموذج للتعايش من خلال معالجة شجاعة للماضي. هذه النماذج تؤكد أن العدالة الانتقالية ليست شعارًا، بل عملية شاقة تتطلب شجاعة الاعتراف بالأخطاء، وتعويض الضحايا، وتأسيس مؤسسات تمنع تكرار الانتهاكات.
الدستور العتيد: ثمرة العقد الاجتماعي لا بديله
الدستور القادم لا ينبغي أن يكون مجرد نصوص قانونية، بل ثمرة مباشرة لعقد اجتماعي جامع. أي أنه يأتي بعد أن يتشكل وعي وطني توافقي على أسس العدالة والمواطنة المتساوية، بحيث يحيا الدستور في وجدان الناس، لا أن يبقى حبرًا على ورق.
وذلك يتطلب إعادة النظر في مخرجات الحوار الوطني بروح مراجعة لا بروح تقديس، حتى تتحول النصوص إلى مؤسسات وممارسات حية. إن قوة الدستور تكمن في كونه مرآة لعقد اجتماعي مقبول ومشترك، لا وثيقة تفرض من فوق.
نحو ميثاق جديد للعيش المشترك:
مراجعة المخرجات وبناء المستقبل
اليمن اليوم يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يقوم على:
1. المواطنة المتساوية: لا سلالة ولا مذهب ولا منطقة فوق أخرى.
2. الاعتراف بالتنوع واعتباره ثروة لا تهديدًا.
3. عدالة انتقالية تداوي الجراح وتمنع تكرار الانتهاكات.
4. لامركزية عادلة تتيح تقاسم السلطة والثروة وفق صيغة اتحادية تراعي خصوصيات الأقاليم.
5. مصالحة وطنية شاملة تضمن أن يكون العقد الاجتماعي أرضية جامعة لكل اليمنيين.
خاتمة:
اليمنيون، وقد أنهكتهم الحروب والانقسامات، مدعوون اليوم إلى الانتقال من مرحلة الوثائق غير المطبقة إلى عقد عيش مشترك متجسد في مؤسسات دولة اتحادية عادلة. بدونه، ستظل الدساتير نصوصًا عابرة، ومعه يمكن أن يجد اليمنيون طريقهم لعبور زمن التمزق إلى رحاب الدولة الجامعة والعيش المشترك الآمن.